أميركا حالياً تُشبه روما قبل سقوطها

منذ بداية العصور الوسطى وحتى عقود قليلة مضت، كان على كل شخص متعلم أن يدرس تاريخ اليونان وروما؛ وهناك سبب لذلك، وسبب آخر يُفسر لماذا يُعتبر من العار أننا توقفنا عن ذلك.

ليس فقط لأن التاريخ يحمل دروساً هامة، ولكن الأمر هو أننا نعيش في زمن بناه أشخاص سبقونا. تُعد أميركا جمهورية دستورية، قام عدد من الرجال بتصوّر مؤسسات الحكم فيها وأورثوها لنا، وكلهم درسوا تاريخ اليونان وروما، كما فعل الفلاسفة والكُتاب ورجال الدولة الذين ألهموهم، وكذلك الذين سبقوهم.

تشبه هذه الديمقراطية التي نعيشها قطعة من جهاز غريب علينا تشغيله. إن لم تكن ميكانيكياً، فلن تحاول إصلاح سيارتك دون قراءة أي نوع من التعليمات أولاً. ولكي نفهم طريقة عمل جمهوريتنا، نحتاج إلى فهم أفكار الأشخاص الذين بنوها، وعلينا أن نفهم من أين أتوا، بحسب ما ذكر موقع The Week الأميركي.

كان المؤسسون الأوائل للولايات المتحدة، وفلاسفة التنوير الذين تعلموا منهم، مرة أخرى، الأشخاص الذين يُفترض بنا تشغيل جهازهم، وكانوا مهووسين باليونان وروما. والسبب الذي يجعل السياسيين يشيرون إلى أميركا في خطبهم باعتبارها “تجربة” في الديمقراطية، والذي يُعطي هذا الشعور بأنهم يجربون شيئاً جريئاً ومحفوفاً بالمخاطر، هو أنهم عاشوا تحت ظل روما.

اعتقاد سائد

كان الاعتقاد السائد حتى تأسيس أميركا هو أن الديمقراطية محكوم عليها بالفشل. لا يمكن للنظام السياسي الذي يعد بالمساواة الرسمية، أن يتحمل ضغط نظام سيحتوي دائماً على عدم المساواة، لكنك مع هذا تحاول إضفاء الشرعية عليه.

في ظل ديمقراطية حقيقية سيكسب الديماغوجيون الشعب بوعود سخيفة وألعاب بهلوانية مبهرجة، ويجنون قوة تكفي لتدمير تلك الديمقراطية التي هي مصدر قوتهم (أوقفوني إذا كان هذا يبدو مألوفاً).

السبب الذي جعلهم يؤمنون بهذا، هو أن هذا بالضبط هو ما حدث لروما، ومن هنا جاء القول “جمهورية، إن كان يمكنك الاحتفاظ بها”.

إذا كان هناك ما نعرفه عن سقوط الجمهورية الرومانية، فنحن نعرف بشكل مُبهم عن يوليوس قيصر، وكيف أنه كان جنرالاً شعبياً استخدم مؤيديه داخل المؤسسة العسكرية لإحداث انقلاب، أدى إلى حرب أهلية، جعلت أغسطس -الرجل القوي الذي انتصر- يفكر أن بإمكانه الاستفادة من كل تلك السلطات التي اكتسبها قيصر لنفسه.

إذا كنا نعرف أكثر قليلاً، فنحن نعلم أن قيصر لم يكن مجرد جنرال ناجح، لكنه كان سياسياً بعيد النظر، لم يستخدم انتصاراته السياسية لقيادة جيشه الشخصي الوفي فقط، ولكن لبناء قاعدة سلطة سياسية شعبوية في البلاد. ربما نعرف كذلك أنه حين كان قيصر مستعداً لانقلابه، كانت الجمهورية الرومانية مرهقة بالفعل، مع وجود نخبة راضية عن نفسها متخمة بقرون من الانتصارات العسكرية والغنائم المصاحبة لها.

لكن ما يشير إليه المؤرخون حالياً على أنه أزمة الجمهورية الرومانية، له عامل طبقي أكثر عمقاً. مثل كل الجمهوريات، فهمت روما نفسها من خلال منظور أسطورة إسقاطها نظام الحكم الاستبدادي وإنشائها، اتحاداً أكثر كمالاً. وككل الأساطير الوطنية، لم يكن هذا صحيحاً بالكامل.

في الواقع، كان المجتمع الروماني مقسماً إلى فئتين: فئة النبلاء وفئة العوام (وهي كلمات لا يزال لها معنى إلى اليوم، حتى ولو كان ضعيفاً جداً). أو 3 فئات إذا عددت العبيد، وهو ما عليك فعله بالطبع، رغم أنهم لم يكونوا مؤثرين سياسياً مثل الطبقتين الأخريين.

كان النبلاء هم الأرستقراطيون، وكانوا مُلاك الأراضي، في عصر كان مصدر القوة الاقتصادية فيه هو الأرض. الأهم من ذلك، أنه بينما كانت معظم أراضي إيطاليا من الناحية النظرية أراضي عامة، كان بإمكان النبلاء زراعتها والاحتفاظ بعائداتها كما لو كانت من ممتلكاتهم الخاصة.

اقرأ أيضا

أوروبا تعلن الحرب على إكس.. هل يسعى إيلون ماسك للانتقام؟

وحقيقة أن النبلاء كان بإمكانهم الاعتماد على العمال العبيد لزراعة تلك الأرض، جعلها أكثر ربحاً لهم، حتى ولو كان هذا يعني مزاحمة طبقة العامة في وظائفهم. هذه المساواة الأساسية بين الطبقة الأرستقراطية من مُلاك الأراضي وبين العامة غير الآمنين اقتصادياً هي أهم ما يجب وضعه في اعتبارنا عن تاريخ الجمهورية الرومانية في آخر عهدها.

إذاً ماذا عن النظام السياسي؟ كما هو معروف، كانت روما تُدار عن طريق مجلس الشيوخ، ولكن هذا المجلس كان فعلياً مكوناً من طبقة النبلاء. للتبسيط، كان مجلس الشيوخ يُشبه السلطة التشريعية، التي رشحت المستشارين، الذين بدورهم أداروا السلطة التنفيذية. ألم يكن للعامة صوت؟ كان العامة يمثلهم مسؤولون منتخبون يُسمون النواب، وكانت قوتهم الأساسية تكمن في قدرتهم على اقتراح التشريعات ومعارضة مجلس الشيوخ.

في معظم الأحيان كان العامة من النبلاء الأثرياء، لأن هذا كان هو السبيل الوحيد للعب دور نشط في السياسة، لكنهم كانوا نبلاء مع لمسة عامية، والنواب الجيدون، مثلهم مثل السياسيين الجيدين، يعرفون كيف يحظون بإعجاب دوائرهم الانتخابية.

أزمة سياسية

في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد -قبل عقود من ظهور قيصر- ولّد هذا التفاوت أزمة سياسية. حاول الشقيقان، طبريا وجايوس جراكوس، تنفيذ إصلاحات مختلفة لإعادة التوازن إلى عدم المساواة الموجودة، تشمل إعادة توزيع الأراضي وتوزيع الحبوب على الفقراء. كيف انتهى الوضع؟ حسناً، لاختصار القصة، انتحر أحد الأخوين في النهاية بدلاً من الوقوع فريسة للإعدام على يد الغوغاء الذين رعاهم أحد المستشارين الارستقراطيين للقضاء عليه بالقوة.

وأدى فشل الأخوان جراكوس إلى أمرين: الأول يتمثل في إعادة تأسيس استخدام القوة لتسوية الخلافات السياسية، والثاني ترسيخ الانقسامات الطبقية في قلب المجتمع الروماني، إذ إن نظام روما المعقد من الضوابط والتوازنات (بالإضافة إلى قساوة الطبقة الأرستقراطية) في روما لم يمكنه حل المشكلة.

بالطبع، لم ير الأرستقراطيون في روما أنهم يدافعون عن أموالهم فقط. بعد كل شيء، كانت روما واحدة من أكثر الحضارات تطوراً في العالم، وكانت الطبقة الأرستقراطية بها تتمتع بثقافة عالية. كانت تلك الطبقة ترى أنها بدفاعها عن امتيازاتها، فهي تدافع عن نفسها ضد العوام، الذين كانوا بلا أدنى شك غير متعلمين وغلاظاً، ولهم معتقدات تناقض ما كان النبلاء يعتقدون أنه قيم روما. في ظل هذه الخلفية، كان على حكومة روما -المتورطة بشكل متزايد في الحروب الخارجية والحفاظ على الإمبراطورية- أن تأخذ طابعاً عسكرياً أكثر وأكثر وأن ترفع الضرائب لمواكبة نفقاتها.

ولأن تلك الصراعات كانت راسخة، ظلت روما تترنح بين الأزمات الدستورية الاجتماعية والسياسية عاماً بعد عام وعقداً بعد عقد، وبحلول الوقت الذي جاء فيه رجل قوي له شعبية، كانت الجمهورية مثل ثمرة ناضجة في انتظار التقاطها.

يقودني هذا كله إلى وضعنا الراهن، هل لاحظت أن الملايين تركوا القوى العاملة؟ وأن الأشخاص غير الحاصلين على شهادات جامعية يتم استبعادهم بشكل متزايد من الاقتصاد؟ وأن نظام الجدارة المُعولم يكافئ نخبة صغيرة تترك الآخرين خلفها؟

الآن، لم يحن بعد وقت قصير. ولم يحن حتى وقت الأخوين جراكوس، لا أعتقد هذا. وإن كانت هناك زيادة في العنف السياسي، فهذا العنف لم يقترب من مستوى ما حدث في الستينات. وعلى الرغم من أن اقتصاد أميركا يمكنه بالتأكيد أن يؤدي أداءً أفضل بكثير، يمكن أيضاً أن يكون أسوأ، في الواقع، فقد بذل أفضل ما لديه مقارنةً بالركود العالمي أكثر من أي اقتصاد رئيسي آخر.

لكن أوجه التشابه موجودة، أليس كذلك؟ ربما لا توجد أعمال شغب، أو استيلاء على الأراضي، لكن هناك بالتأكيد طبقة أرستقراطية، وطبقة عامة الشعب، وهم بالتأكيد على خلاف. وعدم قدرة النظام السياسي والاقتصادي على تحقيق نتيجة تجعل الطبقتين على ما يرام يُبقي على حدة الصراع.

الثلاثاء الماضي، رفضت أميركا المرشحة الارستقراطية وانتخبت نائباً. لنأمل أن نرى بعض الإصلاحات الشبيهة بإصلاحات الأخوين جراكوس، ولنأمل أن تنجح هذه المرة. لأنه إن لم تنجح، أخشى أن أبنائي -ربما أنا لن أرى ذلك- سيشهدون قيصر يعبر نهر بوتوماك.

هافينغتون بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.