مندريس.. الرجل الذي أعاد لتركيا إسلامها

رئيس وزراء تركيا طوال عقد الخمسينيات، خرج من تحت معطف أتاتورك ليتحدى تشريعاته العلمانية، وعلى الرغم من أنه أدخل تركيا في حلف شمال الأطلسي وجعلها رأس حربة الغرب في مواجهة الاتحاد السوفياتي، فإن ذلك لم يشفع له حينما تحرك الجيش ضده في أول انقلاب في تاريخ تركيا المعاصر ليحكم عليه بالموت مع عدد من رفاقه بعد عشر سنوات قضاها في الحكم.

لم يكن مندريس إسلاميا، بل كان عضوا في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك ونائبا عن الحزب المذكور في البرلمان، لكنه اتخذ في عام 1945 إلى جانب ثلاثة نواب آخرين موقفا معارضا لزعيم حزبهم ورئيس الوزراء عصمت إينونو خليفة أتاتورك وحامي ميراثه العلماني، انفصل النواب الأربعة ليشكلوا حزبا جديدا هو الحزب الديمقراطي بزعامة مندريس متحدين إجراءات منع الأحزاب آنذاك.

 

بعدما أسَّس عدنان مندريس ورفقاؤه الحزب الديمقراطي بدأوا في منافسة حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، والمسيطر على كل شيء في تركيا، ودخل مندريس الانتخابات التركية ببرنامج غريب، توقع له كل المحللين السياسين الفشل الذريع، وكان برنامج مندريس الانتخابي يتلخص في بضع نقاط:

1- عودة الأذان باللغة العربية.

2- السماح للأتراك بالحج.

3- إنشاء المدارس وتعليم اللغة العربية.

4- إلغاء تدخل الدولة في لباس المرأة.

5- إعطاء الحرية للناس في ممارسة الشعائر والمعتقدات.

بهذا البرنامج البسيط غيّر المعقد خاض عدنان مندريس وحزبه الانتخابات التركية عام 1950، وكانت المفاجأة المدوية التي هزَّت كل تركيا هي الفوز الساحق للحزب الديمقراطي التابع له مندريس بفارق كبير عن منافسه حزب الشعب الديمقراطي؛ حيث حصل حزب مندريس على 318 مقعداً، بينما حصل حزب الشعب الجمهورى على 32 مقعداً فقط، وشكَّل عدنان مندريس أول حكومة ديمقراطية في تركيا، وتولى هو رئاسة الوزراء، وتولَّى رئيس حزبه جلال بايار رئاسة الجمهورية، وبدأ مندريس في تنفيذ وعوده فسمح للأتراك بالحج بعد منعهم لسنوات، وجعل الأذان باللغة العربية، وفي عام 1954 عقدت الانتخابات للمرة الثانية؛ ليستكمل مندريس اكتساحه، فيفوز بنتيجة أكبر من السابقة، ويواصل إنجازاته، ويستكمل وعوده فينشئ المدارس لتدريس اللغة العربية، وشيَّد 10 الآف مسجد. وفتح 20 ألف مدرسة لتحفيظ القرآن و22 معهداً لإعداد الدعاة لنشر الإسلام الصحيح، كما عمل على تقوية العلاقة مع الدول العربية، وفي نفس الوقت قام بطرد السفير الإسرائيلي عام 1956، وظل مندريس في نضاله السياسي المشرف حتى استطاع إعادة بوصلة تركيا إلى الاتجاه الصحيح.

أسهمت إصلاحات مندريس في تطوير الحياة الاقتصادية في تركيا حيث تقلصت البطالة وتحررت التجارة وعاش الناس فترة استقرار سياسي إلى جانب تراجع حدة التوتر الذي كان سائدا بين السكان والدولة بسبب الإجراءات المناهضة للإسلام ومظاهر التدين والعبادات.

ولم يعلن مندريس في أي من هذه الإجراءات أنه كان إسلاميا أو مؤيدا للإسلاميين، بل على العكس من ذلك وضع تركيا في قلب العالم الغربي حينما انضمت تركيا في عهده إلى حلف شمالي الأطلسي وأصبحت المتراس المتقدم للغرب خلال الحرب الباردة، وأقام علاقات قوية مع الولايات المتحدة وساند مخططاتها في المنطقة وخارجها بما في ذلك إرسال قوات تركية إلى كوريا ووضع تركيا في مواجهة حركة القومية العربية الصاعدة آنذاك بزعامة عبد الناصر.

مع نهاية عقد الخمسينيات كانت إجراءات مندريس الداخلية قد استفزت القوى العلمانية التي تمكنت من حشد قوى اجتماعية لاسيما داخل الجامعات والجيش لمعارضة سياسات الحكومة، فوقعت أحداث شغب ومظاهرات كبيرة في شوارع إسطنبول وأنقرة، وقام طلاب مدرسة القوات البرية بمسيرة صامتة إلى مجلس الشعب في أنقرة احتجاجا على سياسات مندريس.

في صباح 27 مايو/أيار عام 1960 تحرك الجيش التركي ليقوم بأول انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري، حيث سيطر على الحكم 38 ضابطا برئاسة الجنرال جمال جورسيل، وأحال الانقلابيون 235 جنرالا وخمسة آلاف ضابط بينهم رئيس هيئة الأركان إلى التقاعد، وتم وقف نشاط الحزب الديمقراطي واعتقل رئيس الوزراء عدنان مندريس ورئيس الجمهورية جلال بايار مع عدد من الوزراء وأرسلوا إلى سجن في جزيرة يصي أدا.

بعد محاكمة صورية تم سجن رئيس الجمهورية مدى الحياة فيما حكم بالإعدام على مندريس ووزير خارجيته فطين رشدي زورلو ووزير ماليته حسن بلاتقان، وكانت التهمة هي اعتزامهم قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية.

في اليوم التالي لصدور الحكم في أواسط سبتمبر/أيلول عام 1960 تم تنفيذ حكم الإعدام بمندريس ليكون أول ضحايا العلمانيين في الصراع الداخلي بتركيا. وبعد أيام نفذ حكم الإعدام بوزيريه، ودفنت جثامين الثلاثة في الجزيرة ذاتها حتى التسعينيات حينما جرى نقلها إلى إسطنبول حيث دفنت هناك وأعيد الاعتبار لأصحابها بجهود من الرئيس الأسبق تورغوت أوزال.

 

وكالات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.