في عهد الدولة العثمانية كان لإسطنبول وضع خاص في إدارتها باعتبارها عاصمة الدولة. فالسفر إلى إسطنبول، والإقامة فيها كان لهما قواعد ومعايير صارمة. وكان يتم الحفاظ على عدد سكان المدينة حتى لا يعاني السكان ضيق العيش وحتى لا تحدث مشاكل أمنية.
أُديرت إسطنبول دائماً بطريقة مختلفة عن باقي المدن العثمانية. وقد كانت العواصم في العصور الوسطى والعصر الحديث لها وضع مختلف دائماً. فالإقامة أو العمل فيها كان لهما قواعد ومعايير محددة. ودائماً ما أولت الدول أهمية خاصة لنمط العيش والوضع الأمني في العواصم؛ وذلك لأن العاصمة هي قلب الإمبراطورية. وأي خلل في أسلوب المعيشة أو الوضع الأمني بها يُشكل خطراً على السلطة السياسية، ويفسد التوازن الاجتماعي.
لهذا السبب كانت هناك رقابة ومعايير صارمة للمعيشة في إسطنبول. في عهد السلطان عثمان الثاني تجمد مضيق البوسفور بسبب موجة من البرد القارص ضربت إسطنبول. ولم تستطع السفن التجارية أن ترسو على سواحل المدينة. وتسببت موجة الغلاء في المدينة ثم المجاعة في أن يفقد السلطان عرشه وحياته.
لم يكن لإسطنبول والٍ ولا مجلس مدينة مثل باقي المدن العثمانية. ولم يكن أهلها يلتحقون بالجيش. فقد كان رجالها المتعلمون يعملون موظفين بالدولة، وغير المسلمين بها يعملون بالتجارة والحرف المختلفة. كانت الحياة الاجتماعية في إسطنبول ولهجة أهلها وحتى عاداتهم وتقاليدهم مختلفة عن باقي المدن.
كان لإسطنبول وضعية مميزة خاصة لم يحدد لها اسم معين. لذلك كان عدد سكان المدينة ثابتاً دائماً. وكان القدوم من مدينة أخرى للإقامة في إسطنبول أمراً صعباً جداً. وكان من يحضرون إلى إسطنبول لأسباب معينة حضور جنازة أو زيارة أو تقسيم ميراث وحتى من يعبرون من المدينة أثناء السفر إلى مكان آخر، مضطرين إلى مغادرة المدينة بعد انتهاء ما قدموا من أجله.
كان هناك دائماً من يأتون للعمل في إسطنبول بشكل مؤقت لتلبية احتياجات العمل في بعض الأماكن التي تتطلب عمالاً مثل ترسانات صناعة السفن. وكان يُطلق على هؤلاء العمال اسم ” عمال غرف العزاب”؛ لأنهم كانوا مجبرين على الإقامة في “غرف العزاب” المخصصة لهم من قبل الحكومة. وكانت هذه الغرف مشهورة بصرامة القواعد التي لابد أن يراعيها المقيمون هناك.
نظام متكامل
خلال العصر الكلاسيكي للدولة العثمانية لم يكن القرويون الذين يستأجرون أراضي مملوكة للدولة في الأناضول أو الروميلي يستطيعون ترك الأرض التي استأجروها قبل انتهاء مدة الإيجار المتفق عليها. ولو فعل أحدهم ذلك يتم إحضاره من قبل الدولة مرة أخرى ليباشر زراعة الأرض كما يتم تغريمه غرامة مالية. وذلك لأن عائدات الضرائب التي تحصلها الدولة معتمدة في الغالب على المحصولات الزراعية. إيجار هذه الأراضي والضرائب الأخرى يجمعها أصحاب التيمارات (التيمار هي قطعة أرض تمنح لشخص أو جماعة مقابل وظيفة معينة) الذين أطلق عليهم “السباهية”. وفي مقابل ذلك يقومون بتنشئة عدد محدد من الجنود. وكان نظام إدارة الأراضي متكاملاً متداخلاً مع النظامين المالي والعسكري.
كانت هناك قيود على الإقامة في المدن من أجل ضمان عدم حدوث مشاكل أمنية أو مشاكل في الإعاشة. وكان منع الهجرة من القرى إلى المدن من ضمن سياسات الدولة آنذاك. يقول المؤرخ “غليبوللي علي” الذي عاش في عصر السلطان سليمان القانوني مقدماً النصح لرجال الدولة في كتابه ” نصائح السلاطين”:
على رجال الدولة أن يمنعوا الهجرة من القرية إلى المدينة. لأن الأراضي تبور ولا تجد من يزرعها حين يترك القرويون قراهم. كما أن السباهية أصحاب التيمارات يتضررون أيضاً لعدم تمكنهم من تحصيل إيجار الأراضي الزراعية؛ مما يضر بآلية الدفاع. (لأن أصحاب التيمارات يجمعون الضرائب مقابل تنشئة الجند). كما أن من يأتون للإقامة بالمدينة يؤثرون على معيشة أهل المدينة. ولا يدفعون الضرائب في المدينة التي أتوا إليها. وعلى الدولة في هذه الحالة أن تعيدهم مرة أخرى إلى القرى التي أتوا منها، أو تفرض رقابة وضرائب على الأنشطة التي يمارسونها في المدينة.”
جواز سفر داخلي
في القرن السابع عشر بدأ القرويون ترك قراهم لعدة أسباب مثل الحرب أو حركات التمرد أو المجاعات، واتجهوا للإقامة في المدن المؤمنة داخل الحصون. ولكي لا تحدث موجات هجرة إلى إسطنبول أيضاً تم تشديد الرقابة على الدخول إلى المدينة والخروج منها.
كان القاضي في الدولة العثمانية يتولى في الوقت نفسه رئاسة بلدية المدينة التي يعمل بها. وفي عهد السلطان محمود الثاني (1808-1839) سُحبت هذه الوظيفة منهم واقتصر عملهم على القضاء فقط. وأسس السلطان محمود الثاني مؤسسات البلديات الحديثة، وأمر بعدم السماح بتجمع العاطلين من العمل والمتسكعين في شوارع إسطنبول.
في البداية تم فرض رقابة صارمة على غرف العزاب التي تحول معظمها إلى بؤر لممارسة الرذيلة. كانت معظم الأماكن التي تضم هذه الغرف قد تحولت إلى معسكرات للإنكشارية. وعند إلغاء فرق الإنكشارية عام 1829 تم هدم هذه الغرف واحدة واحدة.
أصبح من غير الممكن دخول إسطنبول لمن لا يحمل وثيقة تسمى “تذكرة المرور” تُعد بمثابة “جواز سفر داخلي”. وأصبح من يرغب في السفر إلى إسطنبول ملزماً بأخذ هذه الوثيقة من القرية التي يعيش بها، وكان يُسجل بها الغرض من السفر إلى إسطنبول. وتم تحديد منطقة “كوتشوك جكمجه” لدخول إسطنبول للقادمين من الروميلي، وجسر بوسطانجي باشي للقادمين من الأناضول.
كما فرضت عقوبات على من يدخلون المدينة من طرق غير النقاط المحددة حتى وإن كانوا يحملون “تذكرة مرور”. وكانت تذكرة المرور التي يحملها أي شخص تثير هيئته الشبهات، تحوي عبارات أو رموز مشفرة للدلالة على ذلك؛ حتى تقوم البلدية بالتحقق من هيئته وهويته الحقيقية. ويمكن أن يُمنع من دخول المدينة إن لزم الأمر. وكانت الرقابة تشدد أكثر على الأكراد والأرناؤوط القادمين من المناطق الجبلية.
مسؤولية جماعية
كان على من يدخلون المدينة من النقاط المحددة الحاملين لتذاكر المرور، التوجه إلى مقر البلدية لتسجيل أنفسهم وأوصافهم وتاريخ دخولهم المدينة. كما عليهم تسليم سلاحهم إذا كانوا مسلحين. وكانوا يقيمون في “غرف العزاب” التي تخصصها الدولة لهم. ولأن طبيعة ونمط معيشة القادمين من جزر إيجه تختلف عن طبيعة القادمين من الروميلي والأناضول كانت الدولة تخصص لهم أماكن أخرى للإقامة.
بعد ذلك يبدأ من أتوا للعمل بممارسة العمل الذي أتى من أجله والموضح في تذكرة المرور، كما يمكن أن يجد الشخص لنفسه كفيلاً ويقوم بتسجيل ذلك في سجلات البلدية.
إذا لم يجد الشخص عملاً مناسباً له أو كان هناك زيادة في عدد العاملين بالمهنة التي يرغب في مزاولتها في إسطنبول، كانت تتم إعادته مرة أخرى إلى المكان الذي أتى منه. وعلى من يعودون من إسطنبول إلى قريتهم لأي سبب أن يحصلوا على تذكرة مرور مماثلة للعودة يقوم بإصدارها القاضي.
في حال توفي أحد من هؤلاء العمال أثناء وجوده في إسطنبول يقوم الشخص الذي يضمنه بالذهاب إلى البلدية وتسجيل ذلك في سجلات المدينة.
ولو ارتكب أحد منهم أي جريمة يكون الضامن له أيضاً مسؤولاً معه. لأنه مكلف بمتابعة أحوال وتصرفات العمال الذين يضمنهم، وإبلاغ الجهات المختصة بأي تصرف غير لائق يصدر منهم.
في بعض الفترات تم تكليف المخاتير في الأحياء بالتحقق من تذاكر المرور تلك. لأنهم هم المسؤولون عن الأمن والنظام في أحيائهم. فقد كان هناك مبدأ المسؤولية الجماعية سائداً في المدن والأحياء والقرى بالدولة العثمانية. وكل شخص هو ضامن لجاره. وهو مضطر إلى إبلاغ الحكومة بأي تصرف سيئ يراه في حيه أو قريته.
نهاية الحلم
في عام 1908 تم تعميم “تذكرة المرور” على كل المدن في الدولة العثمانية. وأصبح من الممكن نفي المتسولين والمتسكعين ومثيري الشبهات من أي مكان يوجدون فيه بعد صدور قرار من المحكمة. كما تم إلغاء إعفاء أهل إسطنبول من الخدمة العسكرية عام 1909.
ولكن بعد ذلك التاريخ وبسبب الخسائر المتعاقبة التي تلقتها الدولة العثمانية في الحروب نزح عشرات الآلاف من منطقة الروميلي إلى إسطنبول بعد أن خرجت تلك المناطق من سيطرة الدولة العثمانية. وتبعهم المهاجرون من منطقة القوقاز. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل هاجر أيضاً الروس البيض المناهضون للبلاشفة عقب الثورة الروسية. وأصبحت إسطنبول مدينة تعج بالمهاجرين.
عجزت حكومة الاتحاد والترقي عن السيطرة على الوضع لأنها ظنت أنها تتعامل مع وضع عادي في زمان عادي. وتم تخصيص الحدائق العامة والمساجد والمدارس لإقامة المهاجرين. وزاد عدد سكان المدينة فجأة. وحدث خلل بالنظام الأمني. وزادت الأسعار وبدأت السوق السوداء بالظهور بعد ذلك قلّت السلع الأساسية والمواد الغذائية وبدأت الأوبئة بالانتشار.
وبذلك انتهى حلم العصر الجميل وفقدت إسطنبول المدينة التي يحلم بها الجميع رونقها وهيبتها، ولم تستعدهما مرة أخرى.
كشفت تحقيقات السلطات في تركيا بحادثة وفاة غامضة بمدينة دنيزلي أن السبب وراء الوفاة هو…
عُثر على جثة رجل في ولاية تشوروم التركية داخل منزله، حيث وُجد ميتًا في ظروف…
أجرت شركة اسال "ASAL" للأبحاث٬ استطلاعًا للرأي حول "أهم مشكلة في تركيا"، حيث أجاب 58.1%…
كشفت التحقيقات الأولية في سقوط طائرة الركاب التابعة للخطوط الجوية الأذربيجانية أمس عن سبب سقوطها…
تعطلت ناقلة النفط "كورديليا مون" قبالة سواحل يني كوي في مضيق إسطنبول أثناء رحلتها من…
أثارت أسعار الزيتون التركي في هولندا الجدل في تركيا. وقالت سيدة تركية تعيش في هولندا…
هذا الموقع يستعمل ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) لتحسين تجربة استخدامك.