قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إنَّ رئيس النظام السوري بشار الأسد سيدفع “ثمناً باهظاً” للاشتباه في استخدامه أسلحة كيماوية في مدينة دوما التي تسيطر عليها المعارضة خارج دمشق. لكن ماذا يمكن أن يعني ذلك بالضبط؟
الإجابة على هذا السؤال يقدمها الكاتب يوري فريدمان في تحليل له بمجلة The Atlantic يتساءل فيه: ما الذي يمكن للولايات المتحدة أن تفعله فعلاً تجاه تصرفات بشار الأسد، وما أسماه بـ”خرقه للأعراف الدولية” في هذه المرحلة من عمر الصراع المستمر منذ سبعة أعوام؟
يمكن بحسب التحليل، الذي لجأ فيه الكاتب إلى خبراء معنيين بالوضع في منطقة الشرق الأوسط والملف السوري، حصر الخيارات المتاحة في سيناريوهات أربعة على الأقل، تبدأ بضربة عسكرية وتنتهي بتطبيع علاقات مع الأسد وانسحاب عسكري من سوريا.. فأي هذه السيناريوهات سيكون الخطوة المقبلة للرئيس الأميركي، بعد تصعيد لهجته ضد الأسد.
(1) السيناريو الأول: عمل عسكري واسع النطاق والضرب بقوة
لا أحد في إدارة ترمب -لا ترمب نفسه ولا وزير دفاعه جون ماتيس ولا مستشاره للأمن القومي المعين حديثاً جون بولتون ولا مايك بومبيو المرشح لتولي حقيبة الخارجية- أبدى استعداداً لإزاحة الأسد بالقوة وإعادة بناء سوريا، كما سبق أن فعلت الولايات المتحدة مع صدام حسين في العراق.
غير أنَّ بعض أعضاء الإدارة يقولون إنَّه لا بد من الضرب بقوة على يد الأسد وتحديداً حلفائه الإيرانيين في سوريا. بل إنَّ بولتون ذهب في العام 2015 بعيداً إلى حد اقتراح إنشاء دولة سُنّيّة مستقلة شمال شرقي سوريا وغربي العراق بدعم من الولايات المتحدة. وكتب بولتون مبرراً ذلك: “إذا كان إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يعني إعادة السلطة إلى الأسد في سوريا وإلى “دمى إيران في العراق”، وإرضاء روسيا وإيران على حساب الولايات المتحدة وإسرائيل وشركاء الولايات المتحدة من العرب، فهذه نتيجة غير ممكنة ولا مرغوبة”.
ويقول فيصل عيتاني، الخبير في الصراع السوري في مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط: “إن على الولايات المتحدة أن تقرر ما إذا كان بوسعها أن تقبل سيطرة الأسد (وبالتالي إيران) المطلقة على معظم أرجاء سوريا”. فلو كان هذا أمراً غير مقبول، فعلى إدارة ترمب أن تحرك قوةً عسكرية أميركية أكبر وتشرك القوات المحلية الحليفة لها وشركاءها الإقليميين في حملة جديدة، إما “لإرغام الأسد على مشاركة السلطة أو إلحاق الهزيمة به”.
وقد سبق أن تحدث وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون ذات مرة عن أهداف خلع الأسد عبر تسويةٍ سلمية والتصدي لنفوذ إيران في سوريا. (غير أنَّ هذا الحديث اختفى -تماماً كما اختفى تيلرسون نفسه- منذ ذلك الحين من موقع وزارة الخارجية الأميركية). وكما أخبرني عيتاني، فإنَّ “أموراً كهذه لا يمكن أن تتم من دون وجود مكون عسكري في السياسة الأميركية” يذهب إلى أبعد من مجرد قتال ما تبقى من فلول تنظيم داعش في البلاد. ويمكن أن تبدأ حملة عسكرية من خلال “حشد ما تملكه الولايات المتحدة من أصول” شمالي سوريا، حيث لا تزال القوات المناوئة للأسد تسيطر على بعض المناطق.
فاتورة التدخل على الجانبين
ما يجعل هذا السيناريو الأول صعب التنفيذ الفاتورة الباهظة له وعدم القدرة على إقناع الرأي العام الأميركي به. فأياً ما كان الثمن الباهظ الذي يأمل ترمب في فرضه على الأسد، فإنَّه هو نفسه قد يضطر إلى دفع ثمنٍ باهظ إذا نفذ تهديده، بحسب عيتاني الذي قال: “إنَّ ضريبة تغيير التوازن العسكري والسياسي على نحوٍ ذي مغزى باتت مرتفعة للغاية، على مدار السنوات الأخيرة الماضية”، إذ تدخلت القوات الروسية والإيرانية نيابةً عن الأسد، وصعد تنظيم داعش وسقط واستحوذ على انتباه الولايات المتحدة، واستعاد الأسد وحلفاؤه معظم الأراضي المهمة في سوريا، وحُصرت أعدادٌ محدودة من مقاتلي المعارضة في بضع زوايا من البلاد.
و”ما كان في السنوات الأولى من الحرب هدفاً واقعياً” بحسب عيتاني -حتى حين فكر أوباما في رد عسكري على استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية في العام 2013 وأحجم عنه في نهاية المطاف– “أصبح مخاطرة”. وهذا يصدق بشكل خاص على ترمب، الذي كان يتفاخر الأسبوع الماضي مباشرة بإمكانية سحب الولايات المتحدة قريباً لوجودها العسكري المتواضع بمجرد هزيمة داعش، ليتوقف نزيف الدولارات الأميركية في المنطقة.
ويقول عيتاني: “حتى لو كان ترمب ملتزماً بتنفيذ وعده، فسيجد صعوبةً في إقناع الرأي العام “بشن عملية عسكرية ضد الأسد”، ولكن ما بالك برئيس قليل الصبر غير مهتم لا يرغب في خوض حرب أخرى في الشرق الأوسط أياً كان ما سيسمعه من موظفي إدارته المناهضين لإيران. ومن هنا يخلص الباحث المتخصص في الشرق الأوسط إلى استبعاد تخلي ترمب عن قناعاته الأصيلة وشن حرب ضد إيران وربما ضد الروس، لأن هذا ما ستعنيه إزاحة الأسد”. (تخيل أنَّه في الوقت الذي انخرط الجيش الأميركي فيه تحت حكم إدارة ترمب في معارك بسيطة عارضة مع مرتزقة روس وميليشيات تابعة لإيران في سوريا، كان مجرد ذكر فلاديمير بوتين بالاسم، أثناء إدانة ترمب للهجوم الكيماوي الأخير،خطباً جللاً).
(2) السيناريو الثاني: عمل عسكري محدود لوقف استخدام الأسلحة الكيماوية
يقول أندرو تابلر، المختص في الشأن السوري بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إنَّه كما أنَّ إدارة ترمب شنَّت هجوماً بصواريخ توماهوك ضد قاعدة عسكرية سورية العام الماضي لمعاقبة الأسد على هجوم كيماوي شنَّه، يمكن أن تلجأ الولايات المتحدة إلى “استخدام القوة العسكرية المُوجَّهة للضغط على الأسد” وردعه عن استخدام الأسلحة الكيماوية.
ويمكن أن تصحب ضرباتٌ كهذه بمبادرات مثل تقديم مساعدات إعادة إعمار من الولايات المتحدة إلى المدن التي لا تخضع لسيطرة الأسد في سوريا، والعمل الدبلوماسي مع روسيا وحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط، وكذلك إمكانية تجديد الدعم المستتر لقوات المعارضة السورية (بعد أن قطع ترمب ومدير الاستخبارات المركزية آنذاك بومبيو هذا الدعم خلال العام 2017).
ومن شأن تنفيذ هذا السيناريو كما يرى فريدمان أن يرفع كلفة مساندة النظام السوري على نحوٍ يُحدِث صدعاً بين روسيا وإيران بشأن “إجبار الأسد على الجلوس على طاولة المفاوضات”، بما يزيد احتمالية الوصول إلى “تسوية سياسية يرحل فيها الأسد عن السلطة في نهاية المطاف وتحل محله حكومة مركزية يمكنها أن تحول دون معاودة ظهور الإرهابيين وأن تمنع إيران من الإمساك بزمام الأمور في سوريا.
فاتورة الخط الأحمر على الأسلحة الكيماوية
ومن جهتها تقول الباحثة إيما آشفورد من من معهد كاتو الأميركي إنَّ التحدي يكمن في أن تستخدم الولايات المتحدة “الحد الأدنى من القوة” ضد الأسد، مثلما -حسب اعتقادها- فعل ترمب العام الماضي، حين ألحق الحد الأدنى من الضرر بالقاعدة العسكرية السورية، فهو بذلك “يرسل رسالة بأنَّنا مستعدون بالفعل لفرض احترام الأعراف ضد استخدام الأسلحة الكيماوية”. وإذا صدقت الروايات التي تقول بأن الحكومة السورية شنَّت بالفعل الهجوم الكيماوي في دوما فلن يكون الأول من نوعه منذ قرار ترمب وضع “الخط الأحمر” الأميركي على استخدام الأسلحة الكيماوية). وأضافت آشفورد أنَّ إدارة ترمب يمكنها أن تستخدم قوة مفرطة، وأن تُقلِّص استخدام الأسلحة الكيماوية، لكنَّ ذلك سيكون على حساب المخاطرة بـ”تمكين مجموعات المعارضة المتطرفة، وزيادة حدة ومدة الحرب، وزيادة عدد الضحايا المدنيين على المدى الطويل.
وتتشكك آشفورد في أنَّنا سنشهد جولة أخرى من الضربات الجوية الرمزية [الأميركية] ضد أهداف داخل سوريا. لكن من الممكن تماماً أن يعتبر الرئيس تكرار استخدام الأسلحة الكيماوية بعد الضربات الجوية العام الماضي إهانة شخصية له ويقرر القيام بعمل عسكري أقوى ضد الأسد. ومع ذلك، وإذا ما أخذنا في الاعتبار عدم الاكتراث الواضح الذي يبديه الرئيس تجاه مهام “بناء الدولة”، فإنَّ أي عمل عسكري يُتوقَّع أن يكون قصير الأجل وأن يترك للدول الأخرى والشعب السوري مهمة محاولة إعادة الأوضاع إلى طبيعتها”.
إلا أن توبياس شنايدر، الباحث معهد السياسة العامة العالمي في برلين، يذهب إلى أن الأسد “سيواصل التقدم في سياساته ولن يوقفه سوى أن تواجهه قوة أكبر منه”. وبالنسبة للأسد، “هذه حرب وجود ولا يمكن أن يغير مساره إلا حين يُجبره تهديدٌ وجودي على ذلك”.
ويرى شنايدر أنَّه بدلاً من التطلع إلى ردع الأسد عن استخدام الأسلحة الكيماوية، ثمة هدف أكثر واقعية وهو معاقبة من يرتكبون هذه الأعمال البشعة ويستخدم قدرات الجيش السوري لإلحاق الأذى بالشعب السوري. يقول شنايدر: “لا تنقصنا الأهداف: فالمنشآت التابعة لبرامج الأسلحة الكيماوية والقواعد العسكرية المُستَخدمة لإطلاقها ومقرات أجهزة المخابرات الجوية سيئة الصيت التي [يُعتَقَد أنَّها] نسَّقت آخر الهجمات” ويمكن أن يتضمن السيناريو الثاني بحسب شنايدر “هجوماً أوسع على مصانع الذخيرة وقواعد الصيانة والإمداد التي تخدم القوات المترنحة الموالية للأسد”.
(3) السيناريو الثالث: الانخراط الدبلوماسي والإنساني لأميركا في المنطقة
نظراً لعواقب الخيارات العسكرية، تنصح آشفورد أن تتخذ الولايات المتحدة “خطوات إنسانية ودبلوماسية” قوية، مثل دعم اللاجئين السوريين المتناثرين في أحياء سوريا وتدعم الجهود الرامية إلى إبرام اتفاقية سلام في سوريا.. “وهي خطوةٌ جرى تجاهلها بصورة كبيرة في ظل إدارة ترمب”.
فيما يقول شنايدر إنَّ الأزمة حول الهجوم في دوما لا بد أن تدفع إدارة ترمب إلى التساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة “ترسم “خطاً أحمر” حول الأسلحة الكيماوية لحفظ ماء الوجه، أو لحفظ الأعراف الدولية، أم أنَّها تحاول فعلاً إنقاذ المدنيين؟” ويضيف: “من الواضح أنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها لن يزيحوا بشار من منصبه، لكنَّ هذا يعني أنَّه سيكون عليهم التعايش مع عواقب بقائه. وينبغي أن تركز أي سياسة جديدة تُصمِّمها واشنطن على مصائر هؤلاء السوريين المنسيين: المقصوفين، والجياع، والنازحين من منازلهم من غير المتوقع لهم العودة، وكذلك السوريين العالقين في المناطق المهمشة الفوضوية التي تعج بالإسلاميين من كافة المشارب، الذين لا يتوقف بشار الأسد عن قصفهم أو ضربهم بالغاز لإخضاعهم أو دفعهم للخروج من البلد لإرساء دعائم حكمه”، بحسب الباحث في المجلس الألماني.
(4) السيناريو الأخير: انسحاب عسكري من سوريا وتطبيع علاقات مع الأسد
ويمضي الكاتب يوري فريدمان في مقاله ليقول إن جيمس دوبينز، المبعوث الخاص للولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان أثناء فترة إدارة أوباما، أخبره أنَّه على المدى القريب “يمكن أن يكون توجيه ضربة ‘عقابية’ أمراً ضرورياً للحفاظ على مصداقية الولايات المتحدة”، في ما يتعلق بالاستخدام المُحرَّم للأسلحة الكيماوية. غير أنَّه يقترح أن تعرض الولايات المتحدة بعد ذلك سحب قواتها من سوريا و”تطبيع العلاقات” مع حكومة الأسد بمجرد منح الأكراد المتحالفين مع الولايات المتحدة الحكم الذاتي داخل أرضهم في سوريا وسحب كل الميليشيات الأجنبية -وخصوصاً تلك الموالية لإيران- من البلاد. لكنَّه توقَّع أنَّ إدارة ترمب لن تتبع هذا النهج، بل ستزاوج بين مواصلة توجيه الضربات للأسد واستمرار “الدعوات غير الفعالة لرحيله”. وأوضح أنَّ هذا هو “المسار الذي سيلقى أقل مقاومة” من تفاعلات السياسة الداخلية الأميركية.
وقد كتب دوبينز حديثاً: “انتصر الأسد في الحرب الأهلية. والدولة السورية موالية لروسيا وإيران منذ عقود.. وأفضل ما يمكننا أن نتطلع إليه في هذه المرحلة المتأخرة هو ألا تكون سوريا في مرحلة ما بعد الحرب أسوأ مما كانت عليه قبل الحرب”.
وأشارت ميليسيا دالتون من مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية إلى إمكانية الدمج بين كل هذه الخيارات، بخليطٍ من الإجراءات الأميركية، كتوجيه ضرباتٍ عقابية ضد الطائرات السورية التي استُخدِمت في دوما، وفرض عقوبات على الدول التي دعمت نشر الأسد أسلحة دمار شامل، والدفع إلى إنهاء الحرب في سوريا عن طريق مفاوضاتٍ تُحمِّل الأسد مسؤولية استخدام أسلحة الدمار الشامل وانتشار العنف على نطاق واسع، والالتزام بالإبقاء على مهمات مستدامة لمحاربة الإرهاب وإرساء الاستقرار في سوريا. وتحاجج ميليسا بأنَّه من خلال تلك الخطوات، لن يمكن للولايات المتحدة أن تواجه الإرهاب وتطوير أسلحة الدمار الشامل وحسب، بل ويمكنها كذلك أن تتخذ إجراءً مضاداً لإيران وروسيا.
بيد أنَّ ما تتوقعه ميليسا هو أن تتخذ إدارة ترمب إجراءاتٍ محدودة، تخشى من أنَّها لن تعالج “لا الدوافع الكامنة للحرب الأهلية” ولا “الظروف التي تسمح لتنظيم داعش ومن على شاكلته بالتمدد”.
.
م.عربي بوست