حرص الشيخ في هذه الخطبة على أن يؤكد للجنود الأتراك أنهم جاؤوا إلى هذه المنطقة تجسيدا لرسالة الإسلام، ولمعاني القرآن الكريم الذي يخاطب الناس والبشرية كلها، ويحثهم على التآخي والتعاضد مع الآخرين وقت المحنة.
“نحن هنا ـ يضيف الشيخ ـ لمساعدة جيراننا في وقت المحنة من نير الظالمين، ولنؤمن بلادنا من الإرهاب، ولسنا محتلين”.
هذا التوجه الإنساني يتضح جليا في كل ما قدمته وتقدمه تركيا لأهالي مدينة “الباب” بريف حلب، من خدمات جمة في كافة مناحي الحياة، منذ تحريرها في فبراير / شباط 2017 من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي.
والي مدينة كليس محمد أرسلان، يوضح حجم ما أنجزته تركيا لمنطقة الباب، قائلا “ما رأيتموه في الباب اليوم لا يقارن بالمشهد حين تم تحريرها” من قبل الجيش التركي والجيش السوري الحر، إثر معارك طاحنة استمرت أكثر من خمسة أشهر، “لقد كانت أكثر خرابا” بسبب أعمال التدمير التي قام بها الإرهابيون.
“كان المشهد ـ يتذكر أرسلان ـ أقرب إلى مشاهد هيروشيما اليابانية بعد قصفها بالقنبلة الذرية (الأمريكية عام 1945)، حيث كانت الباب آنذاك مدينة أشباح، خالية من البشر والحيوانات.. لم تكن هناك حتى كلاب ولا قطط في شوارعها بعد أن نزح أهلها” الذين يزيد إجمالي عددهم على 160 ألف نسمة.
اليوم، تحول المشهد تماما.. “فتركيا التي أنفقت إلى الآن أكثر من 40 مليار دولار على السوريين في داخل تركيا أو في سوريا نفسها، انطلاقا من واجبها الإنساني الذي تلتزم به، نجحت في إعادة الحياة لطبيعتها في كافة أنحاء المدينة وما جاورها”، كما يشير باعتزاز والي كليس.
وبالرغم من وجود عشرات المباني المدمرة جزئيا أو كليا في “الباب” من بينها مساجد، فالعمل يجري على قدم وساق إما لترميمها أو إزالتها بالكامل، فيما يمارس أهلها حياتهم اليومية بصورة عادية في أجواء من الهدوء والأمان، كما لاحظ وفد الأناضول.
شانول إسمر، نائب محافظ ولاية غازي عنتاب الحدودية مع سوريا، والمسؤول عن شؤون منطقة الباب، يكشف من جهته من خلال عرض مستفيض مدعم بالأرقام حجم الإنجاز التركي في منطقة الباب.
“البداية كانت مع تأسيس ثلاثة مجالس محلية من أهالي مناطق الباب وبزاعة وقباسين المجاورة.. وهي بمثابة الحكومة هنا حيث تتولى الإدارة والتنفيذ واتخاذ القرارات بدعم منا، فمسؤول التعليم في المجلس المحلي مثلا هو بمثابة وزير التعليم في المنطقة”، يوضح المسؤول التركي.
وتتعاون مع هذه المجالس “مجالس استشارية، منها ما يتبع الجيش السوري الحر”.
أما رحلة التعمير وإعادة بناء ما خربه الدواعش فلم تكن باليسيرة، والعقبات لم تكن بالقليلة، ومع ذلك تم تحقيق إنجازات ضخمة كما يوضح إسمر.
فالكهرباء مثلا كانت تأتي من تركيا التي لم تقطعها حين احتلت داعش الباب حرصا على أهلها، ولكن داعش دمرها حين ترك المدينة، فنجح المختصون الأتراك في توليدها مجددا بواسطة مولدات كبيرة، مستفيدين من وفرة المازوت وسعره الرخيص في المنطقة. أما المياه فكانت تأتي للمنطقة عبر نهر الفرات من جهة منبج، لكن إرهابيي بي كا كا / ب ي د منعوا وصولها إلى الباب بعد تحريرها.. فشرعت إدارة المياه التركية في حفر الآبار وإنشاء خزانات كبيرة لمياه الأمطار، لتوزيع المياه للزراعة وغيرها. أما مياه الشرب فتأتي بشكل منتظم من تركيا حرصا على صحة الأهالي.
وبالنسبة إلى التعليم، فقد انقطع ما يقرب من 50 ألف تلميذ عن الدراسة بسبب الحرب، إلا أنهم عادوا رفقة 1600 معلم إلى الفصول مطلع العام الدراسي الحالي، بعد أن قامت تركيا بترميم 56 مدرسة للآن، بنفس مواصفات مدارسها، وسيزيد العدد لاحقا هذا العام إلى 65 مدرسة.
ولم تكتف السلطات التركية بذلك، بل فتحت لأول مرة في المدينة فصولا خاصة لمحو أمية كبار السن.
وفي القطاع الصحي، يوجد الآن مستشفى تركي كبير يستوعب 13 عملية جراحية يوميا وبطاقة 200 سرير للمرضى، كما تعتزم تركيا قريبا افتتاح مستشفى ثانٍ بطاقة 200 سرير أيضا، لدعم المشافي الخاصة الصغيرة القائمة.
كما أسست نظاما للإسعاف الطبي، وساعدت المجالس المحلية على تأسيس نظام مهني للصيدلة، وتم الترخيص حتى اليوم لـ 67 صيدلية.
أما عن الزراعة في منطقة الباب التي أطلق عليها “سلة غذاء الشمال السوري” لوفرة أراضيها الخصبة، فهي تمتد على مساحة 12 ألف هكتار، تزرع أساسا بالقمح والشعير. وأسست تركيا فرقا متخصصة للعناية بالزراعات، كما دربت متخصصين على مكافحة أمراض الماشية.
وحرصا على توفير الغذاء، تقوم منظمات تركية مثل الهلال الأحمر بتوزيع 2010 أطنان من الدقيق التركي شهريا بمعرفة المجالس الإدارية على المخابز، حيث يتم بيعها لهم بسعر زهيد، مع السماح لهم بربح بسيط.
تحد من نوع آخر واجهته رحلة تعمير “الباب”، تمثل في قيام داعش بمحو أرشيف النفوس الخاص بالمنطقة، إلا أن المجالس المحلية الثلاثة شرعت بإسناد تركي في عملية إحصاء عدد السكان، والتأكد من ملاك الأراضي بالاستناد إلى شهادات أهل الثقة.
حديث الأرقام والإنجازات مع شانول إسمر لم ينته بعد..
فبموازاة كل ما سبق من تعمير وإصلاح وتحديث، كان لا بد من إعادة تأسيس نظام قضائي يرسخ القانون، فتم توفير مقر لكل قاضٍ ومدعٍ لقسم من كل مدينة أو ناحية، كما أنشات تركيا سجنا يتسع لـ 300 شخص إنفاذا للقانون.
كما دربت أنقرة ألفين من العناصر الأمنية تم اختيارهم بعناية، وتوزيعهم على الباب وقباسين وبزاعة، من بينهم 105 عناصر نسائية، وأنشات كذلك 21 نقطة أمنية، ووفرت 24 سيارة شرطة.
“مع إرساء الأمن، صار من الطبيعي اليوم أن نشاهد نساء يجلسن بمفردهن في الحدائق العامة في أمان تام”، يشير إسمر.
أما عن إيرادات المجالس المحلية، فقد وفرت تركيا للمجالس نظاما لتحصيل الرسوم مقابل التراخيص والخدمات، لمساعدتها على الوصول إلى مرحلة التمويل الذاتي للمشاريع.
أيضا لم تنس تركيا الشهداء واليتامى في هذه المنطقة، إذ أحصت أكثر من 1900 من أسر الشهداء، وحوالي 4300 يتيم، تتولى مساعداتهم منظمة إيفاد والهلال الأحمر التركي ووقف الديانة.
كما لم تنس واجبها تجاه النارحين القادمين إلى الباب من مناطق أخرى في سوريا، وكان أحدثهم “حوالي 20 ألفا (من إجمالي 50 ألف نازح في مدينة الباب وحدها) قدموا مؤخرا من منطقة الغوطة الشرقية، “نسعى إلى استيعابهم في مقار مؤقتة، أو مساجد، لحين تدبير مساكن دائمة لهم”، بحسب نائب محافظ غازي عنتاب.
كذلك، لم تنس تركيا البعد المستقبلي حرصا على توفير تنمية مستدامة للأشقاء السوريين في منطقة الباب، “سنطلق قريبا منطقة صناعية تضم مصانع نسيج، وكيماويات، وجلود، وصناعات يدوية، وغيرها”، يقول شانول إسمر.
بدوره، يلخص جمال العثمان رئيس المجلس المحلي لمدينة الباب المشهد الحالي قائلا: “المجلس المحلي وما يقوم به من بناء بدعم قوي من الأشقاء الأتراك، هو بحق نواة للدولة السورية الجديدة”.
.
الاناضول