لا تخلو لافتة من صور الفتاة «عهد التميمي» في احتجاجات قرية «النبي صالح» الواقعة شمال رام الله، ولا يبدو أن جنديًا من الاحتلال الإسرائيلي اقترب من منزلها، أو أحد أقاربها، دون أن ينال صفعة قوية من يدها الصغيرة، ولذلك استحقت تلك الشقراء أن توصف بـ«أيقونة المقاومة الشعبية في فلسطين».
فهي لم تعرف الخوف منذ صغرها، وترعرعت مع معاناة قريتها من الاحتلال، وكبَّرت في كل جمعة كانت تشهد فيها القرية المسيرة الأسبوعية، وهي التي تكبر ذكرياتها مع جمع المزيد من القنابل المسيلة للدموع والصوتية وغيرها من أدوات القمع في بيتها.
عهد التميمي.. أيقونة المقاومة الشعبية
«بالرغم من القيد، كانت عهد تتوسط ثلة من المجندات.. التحقيق لن ينتهي، وحسب حديث القضاء، فعهد لا تتجاوب مع التحقيق، وتصر على الصمت.. دمت قوية صلبة مقاومة»، حتى المشهد الأخير، ظهرت فيه الفتاة الفلسطينية، عهد التميمي، شجاعة، كما وصف والدها في الكلمات السابقة حالها أمس، أثناء محاكمتها من قبل الاحتلال.
اعتقلت الفتاة ذات السادسة عشر عامًا على يد قوة من جيش الاحتلال، فجر 19 ديسمبر (كانون الثاني) الحالي، وذلك ردًا على تصدي الفتاة مع ابنة عمها «نور» لجنديين من الاحتلال حاولا نصب كمين على مدخل منزليهما للشبان الذين يرشقونهم بالحجارة خلال اقتحام قرية النبي صالح، بعد أن أصابا قريب الفتاة «محمد التميمي» (15 عامًا) بجراح خطيرة بالرأس، وقد ظهرت الفتاة وهي تضرب جنديًا ببسالة في مشهد فيديو نال شهرة واسعة خلال الأيام القليلة الماضية، وقال والدها «باسم» إن الجنود داهموا منزله، وصادروا الهواتف النقالة، وأجهزة الكومبيوتر، واعتقلوا ابنته، ثم زوجته؛ حين ذهبت تسأل عن ابنتها.
ولدت عهد – وهي الآن طالبة في الثانوية العامة، الفرع الأدبي في مدرسة البيرة الثانوية للبنات بقرية «النبي صالح» (شمال رام الله) – في 30 مارس (أذار) 2001، وفي الرابعة من عمرها ظهرت كأصغر الفتيات اللواتي يتوسطن جموع المحتجين على اعتداءات الاحتلال في القرية، لتجدها بجوار أمها تشارك في غالبية المسيرات المناهضة الاحتلال، حتى لفتت أنظار العالم لها وهي في عمر العاشرة؛ حين أخذت تدفع جنود الاحتلال عن أمها «ناريمان التميمي» خلال مسيرة سلمية مناهضة للاستيطان في أغسطس (آب) 2012، وقد واصلت الفتاة نهج التصدي والتحدي لجيش الاحتلال في اعتداءاته على عائلتها وجيرانها، حتى وقعت الحادثة الثانية التي أظهرت شجاعتها، إذ شاركت أمها في تخليص شقيقها «محمد» من يد جندي للاحتلال داهم الطفل على صخرة وهو مكسور اليد في العام 2015، وأشيد حينها بشجاعة تلك الطفلة التي تمكنت من تخليص شقيقها من الاعتقال.
وحين وصلت عهد سن المراهقة لم تنشغل بما يمكن أن يشغل بنات جيلها، فقد استغلت شجاعتها في الميدان، وكانت تمنع جنود الاحتلال من اعتقال شبان قريتها، ومنعتهم أكثر من مرة من استهدافهم بالرصاص الحي والمعدني المغلف بالمطاط، وكان آخرها في حادثة اعتقالها؛ إذ رفضت الفتاة ترصد قوات الاحتلال بالشبان من أمام بيتها.
ولمواقفها الشجاعة المتعددة حصلت عهد على جائزة «حنظلة للشجاعة» عام 2012 من قبل بلدية (باشاك شهير) التركية، وهي تطمح إلى دراسة القانون لتصبح محامية، وتقول: «لمّ أكبر بدّي أصير محاميّة؛ لأساعد أهلي ووطني والأسرى، لأظهر للعالم ولمحكمة العدل العليا الدولية (تقصد محكمة لاهاي الدولية) حقوق أبناء شعبي»، وتضيف لـ«مونتيور»: «هناك قوانين لحقوق الإنسان يجب أن تطبّق، ويكون هناك عدل بين الفلسطينيين وبقيّة الشعوب، لازم تنتهي العنصريّة بالعالم».
إسرائيل غاضبة من «عهد» التي تشوه سمعتها
«إن نتنياهو ترك الجنود في الميدان وحدهم !» هكذا عقب في التاسع والعشرين من أغسطس 2015، زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، ووزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، على فيديو يظهر عائلة «عهد التميمي» وهي تخلص ابنها «محمد» من يد جندي إسرائيلي.
الفيديو الذي أثار آنذاك الرأي العام العالمي، وهو يظهر الطفل في الثانية عشر من العمر مكسور اليد، يجلس فوقه جندي مدجج بالسلاح، رأى فيه «ليبرمان» إهانة لجنوده، وهو على ذات المبدأ حتى اليوم، فقد كان أبرز القادة الإسرائيليين الذين حرضوا على اعتقال الفتاة عهد؛ بحجة إهانة هؤلاء الجنود في الفيديو الأخير، فقال: «الذي يَعتدي بالنهار؛ يُعتقل بالليل»، وأضاف دون خجل: «إن عائلة عهد وأقاربها أيضًا، لن يفلتوا من العقاب؛ بسبب طردهم الجنود من المنزل»، بينما قال وزير التعليم الإسرائيلي، نفتالي بينيت: «إن عهد يجب أن تقضي بقية حياتها في السجن».
ويذكر مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن «الإسرائيليين يطلقون عليها (عهد) شيرلي تيمبر، ويقولون إنها تجسد الدعاية الفلسطينية لتشويه سمعة إسرائيل»، وتضيف الكاتبة «روث إغلاش» أن «الفلسطينيين يصفونها بالبطلة، وذلك في ظل وقوفها دون خوف في مواجهة جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين يحتلون أرضها، ويرهبون أهل قريتها».
https://www.youtube.com/watch?v=S_v7NcNEjSM
فيما ذكر موقع «كيكار هشبات» العبري أن ما قامت به الفتيات «إذلال للجنود، وهو سبب واضح لانخفاض عدد المجندين الإسرائيليين في الوحدات القتالية»، ورأى بعض الإسرائيليين أنه كان يجب على الجنود أن يطلقوا النار تجاه أقدام تلك الفتيات وإصابتهن.
وتحاول وسائل الإعلام الإسرائيلية – خاصة اليسارية – إظهار عدم رد جنود الاحتلال على الفتاة بأنه ينم عن تعامل إنساني، فبحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت»: «وبالرغم من الاعتداء عليهم، وما تعرضوا له من إهانات من قبل الفتيات، إلا أنهم اعتمدوا سياسة ضبط النفس، وامتنعوا عن الرد على الفتيات اللواتي تم توثيقهن بالفيديو»، ويمكننا هنا تسجيل رد النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي، أحمد الطيبي، حين كتب مع صورة الطفل المصاب بجراح خطيرة بالرأس، محمد التميمي (15 عامًا): «هذا محمد ابن عم عهد الذي لم تسمعوا عنه أنه تلقى رصاصة في الرأس، دون أن يوجه صفعة للجندي».
التميمي.. «أكبر العائلات المعادية لإسرائيل»
في التاسع والعشرين من أغسطس 2015، أفجعت العالم – كما أسلفنا – صور تظهر جنديًا إسرائيليًا يجلس على رقبة طفل في الثانية عشر من عمره يده مكسورة، ويعتدي عليه بوحشية.
لم يدرك حينها محمد التميمي (شقيق عهد) الذي وصفته مواقع العبرية بـ«المخرب» أن لحظة خروجه للعب كرة القدم بجوار منزله الكائن في قرية النبي صالح، ومن ثم خروج عائلته لتخليصه من الجندي، ستجعله صاحب مقطع فيديو شهير يظهر جنود الاحتلال يتعاملون بوحشية مع الأطفال الفلسطينيين العزل.
لم يكن ذاك المشهد الذي سطره شريط الفيديو الأول في حياة عائلة «التميمي» التي عرفت بين الفلسطينيين كنموذج للمقاومة والنضال، فبينما يمكن إحصاء عدد مرات اعتقال والدي عهد، لا تحصى عدد الاعتداءات التي نالت من العائلة من جنود الاحتلال، والتي بدأت لعائلة عهد الصغيرة منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، فقد ترعرعت الفتاة وسط عائلة ناشطة في مجال مقاومة الاستيطان، وتحرص على إشراك جميع أفرادها في المقاومة الشعبية خلال المسيرات الأسبوعية، حيث تشهد قرية النبي صالح منذ ديسمبر (كانون الأوّل) العام 2009، احتجاجًا أسبوعيًا ضد إقامة جدار الفصل العنصري، ومصادرة أراضي القرية لصالح مستوطنة (حلميش)، وتتحمل العائلة في سبيل ذلك قنابل الغاز المسيل للدموع، والرصاص المطاطي، والرصاص الحي، التي يلقيها جيش الاحتلال لتفريق تلك المسيرات، وهي إحدى العائلات التي تواجه خطر «التهجير القسريّ»، فقوّات الاحتلال تهددها بهدم منزلها، بدعوى عدم الترخيص؛ كونه يقع في منطقة تصنّف (C)، تخضع للسيطرة الإسرائيلية بالكامل.
يقول محمد (شقيق عهد): «كل أطفال البلد يذهبون للمسيرات، الجيش يتعامل معنا بوحشية: يضربونا بالغاز، والعصي، والرصاص المطاطي، وحتى الحي»، ويضيف لـ«الأناضول»: «كُسرت يدي ذات مرة خلال المشاركة في المسيرات، وبالرغم من ذلك، فسأواصل المقاومة، وسندافع عن أرضنا».
وتدرك إسرائيل التاريخ الحافل لعائلة «التميمي» في قرية النبي صالح، وهي تقر أنها «أكبر العائلات المعادية لإسرائيل»، لذلك واصل العديد من المسؤولين في حكومة الاحتلال التحريض لاعتقال عهد ووالدتها، وذكرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية أن «والد عهد زوج ناريمان اعتقل في العام 1993 للاشتباه بمشاركته في قتل أحد المستوطنين قرب مستوطنة (بيت إيل) القريبة من رام الله، إلا أنه أفرج عنه بعدما تبين للاحتلال أن باسم ليس له علاقة بالعملية، وإنما ابن شقيقه نزار التميمي الذي أفرج عنه في صفقة شاليط»، وقد تزوج نزار داخل السجن من الأسيرة الفلسطينية، أحلام التميمي، العقل المدبر لعملية مطعم «سبارو» خلال الانتفاضة الثانية عام 2002، والتي طالبت وزارة العدل الأمريكية الأردن- تحمل الجنسية الأردنية – بتسليمها في مارس 2017، بعد أن وضعها مكتب «التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)» على رأس «لائحة الإرهابيين» المطلوبين بتهمة المشاركة في تفجير مطعم إسرائيلي عام 2001؛ قتل فيه أمريكيان، لكن الأردن رفضت تسليمها.
الفلسطينيات.. بسالة الجميلات التي ترهب إسرائيل
«إذا بترجعوا (تعودوا) كمان مرة (مرة أخرى) بتوكلو كتلة (سيتم ضربكم).. هي البنات بستنن فيك (البنات بانتظاركم»، بهذه الكلمات حذرت والدة «عهد» جنود الاحتلال الذين اقتربوا من منزلهم في اليوم الأخير قبل اعتقال فتاتها.
https://www.youtube.com/watch?v=S_v7NcNEjSM
بالرغم من تفاخر الإسرائيليين بما يعتبرونه «ضبط نفس» أمام بسالة النساء والأطفال الفلسطينيين، إلا أنهم يسارعون في الليل، وبعيدًا عن الكاميرات لشن اعتقالات متعددة بحق النساء والفتيات الفلسطينيات اللواتي يشاركن في المواجهات المندلعة في القدس والضفة الغربية، حيث كن في طليعة رافضي القرار الأمريكي باعتبار «القدس عاصمة لإسرائيل»، وتعرضن لاعتداء الاحتلال وجنوده، وهو ما دفع الاحتلال لاستهدافهن؛ للحد من دورهن الفعال في المظاهرات الاحتجاجية، فتركزت الاعتقالات خلال الأيام الماضية على النساء والأطفال، وعلى سبيل المثال اعتقلت عهد وأمها وشقيقتها وابنة عمها، ولذات السبب اعتقلت قبل أيام المقدسية «رفقة القواسمي» التي طرحت جندية إسرائيلية أرضًا في احتجاجات في باب العمود، وغيرهن العديد.
ويرى قطاع من الإسرائيليين في واقع الأمر ظهور ضعف جنودهم أمام بسالة الفتيات والنساء الفلسطينيات باعتباره شيئًا مخزيًا، فلا يتمكن جيش الاحتلال من اعتقالهن في وضح النهار، ليرسل إليهن قواته المدججة بالسلاح في الليل، ويعتبر الإسرائيليون أن ظاهرة إقدام فتيات قاصرات ونساء فلسطينيات بالاعتداء على جنود الاحتلال الإسرائيلي تقتضي اعتقالهن والتعامل بقوة معهن لترهيبهن من المقاومة.
المصدر: ساسة بوست