لتحقيق الاستفادة القصوى.. نصائح هامة ستعينك قبل بدء القراءة

الكتاب، والقراءة بوجه عام، بوابتنا للفهم والإدراك، “فلا يمكن في عالمنا المعاصر تحصيل معرفة تامة بدون القراءة، وسيظل كل نشاط لتحصيل الثقافة والمعرفة -ليست القراءة ركنا فيه- نشاطا ناقصا يجعل صاحبه أسيرا للابتسار والاختزال المسيطر على معظم قنوات المعرفة الأخرى”[2].

فمن “كافكا” الذي صرح بأن الكتب هي الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا، إلى “جيمس بولدوين” الذي يراها وسيلة للتغيير، نجد أنفسنا أمام نصيحة “العقاد”: “يقول لك المرشدون: اقرأ ما ينفعك، ولكني أقول: بل انتفع بما تقرأ”[3]، ليظهر لنا بمقولة العقاد تساؤل هام عن كيفية الانتفاع بما نقرأ.

وهو السؤال الذي يجيب عنه العديد من الباحثين والكتاب، بخبراتهم الثقافية والعلمية، لتحقيق قدر مريح من الاستفادة والإدراك في كل رحلة يخوضها القارئ مع الكتاب، لكن وحسب الباحث والكاتب “أحمد سالم”، فإن “تقديم قائمة من القواعد في المجالات الإنسانية والحياتية لا يهدف إلى تقديم قوانين؛ وإنما يهدف إلى تكثيف مجموعة من الخبرات والتجارب في عبارات موجزة تستمد قيمتها من ثقتك بقائلها”، لكن هذه القيمة في النهاية “تظل مرهونة بأن تقوم بتجربة هذه القواعد فتجدها صالحة لك؛ لأنه لا ضمانة لشمول نفع هذه القواعد لكل أحد”[2]. فكيف صاغ الكتاب نصائحهم حول الأمر؟

ما قبل الكتاب

“وفر الوقت وابتعد عن الضوضاء”، من هنا تبدأ النصائح حينما تقبض يداك على الكتاب[4]، أما قبل ذلك فإن الأمر يسبقه شيء من الترتيب، فيقول “مبارك بقنه” إن “القراءة الفعالة تبدأ قبل القراءة، فالقارئ الجيد يحدد هدفه من القراءة، فقبل (كيف تقرأ)، اسأل: لماذا تقرأ، وما الهدف من وراء قراءتي”[5].

ثم يُجمل أسباب القراءة لتنظيم تفاعل القارئ مع أنواعها، فنحن نقرأ إما لفهم رسالة محددة، أو لإيجاد تفاصيل هامة والبحث حول سؤال ما، وكذا فإن التسلية والمتعة تبقى واحدة من أغراض القارئ في توجهه إلى الكتاب؛ لذا فإن “معرفة الهدف ووضوحه في الذهن أمر أساسي وضروري لعلمية الاستيعاب والفهم”، فإذا ما كان الهدف هو القراءة لأجل القراءة، فإن “بقنه” ينصح بإضافة هدف آخر لتحفيز القارئ على الإكمال.

ثم يأتينا الكاتب “عبد الكريم بكار”[4] بنصيحته حول أهمية المتابعة اليومية لإنتاجية القارئ؛ لأن وضع خطة قصيرة للقراءة تشمل قراءات شهر فحسب، والالتزام بتنفيذها ولو كانت ساعة واحدة يوميا، لينبت بذلك ثمرة من التراكم المعرفي والازدياد الثقافي بصورة غير متوقعة[2]، فـ”تحويل القراءة إلى عادة من عادات الحياة، وجعلها جزءا من روتين العيش اليومي، هو الطريق الأساسي لتجاوز عقبات القراءة وعثراتها”[2]، ثم حدد جدولك اليومي، ولا تذهب إليه أبدا بمزاج عصبي سيئ[5].

أما عن الكتاب واختياره، فإن الشاعر “محمود قحطان” يرى أن على القارئ البداية بما يثير فضوله من فروع المعرفة[6]، ثم يتبع ذلك تحديد الكتاب المناسب حسب المساحة التي يحتاج القارئ تغطيتها، فيقول “مبارك بقنه”، على سبيل المثال أنك “لو أردت أن تقرأ عن العولمة فإنك ستجد كتبا كثيرة قد تناولت الموضوع بطرق مختلفة”؛ لذا “يجب أن تكون أكثر تحديدا، ماذا تريد عن العولمة؟”.

ثم يكمل: “هل تريد فقط معرفة عامة لمعنى العولمة دون الدخول في الجزئيات والتحليلات الدقيقة؟ فيكفيك كتاب مختصر تقرأ فيه الخطوط العريضة عنها، أم أنك تريد التوسع في دراستها دراسة تحليلية ومعرفة منطلقاتها وأهدافها وآثارها على العالم برمته؟” فتبحث عن كتاب شامل واسع؛ “بل أحيانا يتطلب الأمر أكثر من كتاب لتحقيق الهدف”[5]، وفي سياق النصح ذاته، يرشد “بكّار”[4] الراغبين في العودة إلى التراث بالسؤال عن أفضل تحقيق للكتاب، لما يتضمنه ذلك من شروحات وهوامش تساعد القارئ المعاصر على فهم الكتاب.

رحلة الاستكشاف

أنت الآن تحمل كتابك الذي اخترت، فماذا بعد العنوان؟ هذا ما يجيبك عنه “موتيمر آدلر”، و”تشارلز فان دورن” في كتابهما “كيف تقرأ كتابا” (How To Read A Book) إذ يضعان مجموعة من القواعد المساعدة للقراء، كتصنيف الكتاب حسب موضوعه، وتحديد المجال الذي يبحث فيه والأسئلة التي يحاول الإجابة عنها[7]، كمعلومات أولية -تفحّصية- تساعد على استكشاف الكتاب قبل الشروع في قراءته؛ لتحديد ما إذا كان المحتوى هو المرغوب بالفعل أم لا.

فحسب “بكار”[4]، فإن القراءة الاستكشافية للكتاب الذي بين يديك ضرورية لتحديد الصورة التي سترافقه بها، وهي قراءة بسيطة لا تتجاوز النصف ساعة، يقرأ من خلالها المرء مقدمة الكاتب التي تحتوي على تمهيد لطرحه، ثم فهرس الكتاب للوقوف على العناوين الرئيسة والأفكار التي يتضمنها، وبعدها ينتقل القارئ إلى خلاصات الفصول -إن وُجدت- بالإضافة لمراجعة المصادر التي اعتمدها الكاتب لمعرفة أفكاره وما يتجه إليه، وكذا بمطالعة فقرات وصفحات بتركيز لفهم أسلوب الكاتب وطريقته.

وفي رسالة له بعنوان “كيف نقرأ الفلسفة”، يرى الفيلسوف “رينيه ديكارت”[8] أن الغاية التي تتركز حولها القراءة الابتدائية للكتاب لابد وأن تكون مجرد إدراك عام للقضايا التي يتعامل معها، بشكل سريع كما لو كان يقرأ رواية، فإن وجد بعدها القارئ أن هذه القضايا جديرة بالتفحص وتوفر لديه الفضول اللازم للإدراك، فإن قراءة ثانية، وربما ثالثة أو رابعة، ستكون خطوته التالية بعد ذاك.

 هذه القراءة ستفيد -وفقا لـ”بكار”[4]– في استخراج التساؤلات الذاتية لدى القارئ، وهل هو من شريحة القراء المقصودة بالكتاب أم لا، وكذا تختبر فهمه لمجمل الكتاب وأفكاره العامة، إذ إن “انتفاعك من الكتب  يكون بقدر حصيلتك من المعرفة والوعي، فالكتب المهمة والمؤسِسة يتناسب انتفاعك بها -زيادة ونقصا- مع المحصول الثقافي، ودرجة الإدراك والوعي التي عندك”[2]، وهي الجزئية التي تختبرها قبل الشروع في تحليل الكتاب؛ لمعرفة ما تحتاجه وما إذا كنت ستلجأ لاستشارة متخصص أم لا.

الرحيق والعسل.. أفكار لا معلومات

بين التسلية وحصد المعلومات، يخرج لنا “عبد الكريم بكار”[4] بالنوع الثالث من أهداف القراءة، وهي القراءة من أجل توسيع قاعدة الفهم، التي تعتبر أشق الأنواع الثلاثة وأكثرها فائدة؛ لأنها تستهدف امتلاك منهج قويم في التعامل مع المعرفة، وتكسبنا عادات فكرية جديدة تثمر بها المعلومات أفكارا. فحسب “بيجوفيتش” فإن ثمة أناسا “يكدسون المعارف في عقولهم من دون أن تتسع رؤيتهم؛ فهذا الاتساع لا يتحقق إلا من خلال الأفكار.. فبعض الناس يلتهمون الكتب من دون الوقفات الضرورية للتفكير من أجل هضم المقروء ومعالجته.. إن القراءة تقتضي إسهام القارئ فيما يقرأ، ويحتاج هذا إلى وقت، كالنحلة تُحول الرحيق في بطنها إلى عسل”[9].

ومن هنا يعلق “أحمد سالم” قائلا، إن “الحصيلة المعلوماتية يكفي لتحصيلها مواصلة القراءة والاطلاع الثقافي من غير درس منهجي لتحصيل الأدوات، ولكنها لن تفيدك أكثر من كونها معلومات مفرقة ربما تصلح في مسابقات من سيربح المليون، أو تصلح للزهو في المجالس، لكن التفكير الدائم والتأمل المتصل، وتبادل الأفكار والمناقشة مع القراء المتميزين، كل ذلك هو الذي يفتح الباب لربط هذه المعلومات وتكوين قوالب متماسكة من الأفكار”[2].

فلا يكن همك من القراءة إنهاء الصفحات، “بل اجعل الغاية هي فهم ما بين يديك.. فإذا كان هدفك إنهاء الكتاب فقط فإنك بهذا تسعى إلى إجهاد نظرك من غير طائل”؛ لأن “القراءة الجيدة الإيجابية يجب أن يصاحبها التفكير والاستنتاج وإعمال الفكر في المقروء”؛ إذ إن “الهدف الأساسي من القراءة هو فهم ما تقرؤه، ولا يتم الفهم إلا بالتفكير في المقروء، ووضع الأسئلة واكتشاف الأجوبة من خلال القراءة”[5].

فمن صفات القارئ الرديء “أنه لا يضع أسئلة ولا يجيب عن أي سؤال يتبادر إليه”[5]؛ لذا ينصح “مبارك بقنه” بكتابة القارئ لأسئلته الخاصة بالكتاب في ورقة خارجية على غلافه، مثل: “ماذا يبحث الكتاب بمجمله؟ ما مدى أهمية المعلومات التي طرحها؟ هل الكتاب شامل في تناوله للموضوع؟ كيف تناول الكتاب عرض أفكاره؟ ثم تضع أسئلة متعلقة بخصوصية الموضوع وتبحث عن أجوبة لجميع أسئلتك”[5].

ثم ينتقل سالم إلى أسئلة يسألها القارئ لنفسه عن إدراكه لما يقرأ وسبب رغبته فيه قبل ذاك، فهو يرى أن يسأل المرء نفسه قبل الذهاب إلى الكتاب، “ماذا أعرف عن هذا الموضوع، وما الأسئلة التي في ذهني عنه ولا أعرف جوابها؟” فهذا “أشبه ببناء هيكل للمعرفة يسمح لك بدرجة استفادة أكبر بكثير من الدخول الغافل الذي اعتاده الناس”[2]. وهي الأسئلة التي تكتمل بثلاث أخريات حول النص نفسه، فـ”ما الأسئلة التي أثارها فيك الكتاب وأجابها، وما الأسئلة التي أثارها ولم يجبها، وما الأسئلة التي كانت معك وتبقت بلا جواب؟”، وهذه الأسئلة الخمسة، والحرص عليها في معظم قراءاتك، “سيساعدك إلى حد كبير على تحصيل أكبر فائدة من عملية القراءة”[2].

بين دفتي الكتاب

أنت الآن في طور القراءة الفعلية، فبعد الاختيار والاستكشاف، ومع استصحاب أهمية الفهم والتحليل وليس فقط جمع المعلومات، يأتيك “آدلر” و”فان دورن”[7] بقواعد عامة في “الإتيكيت” الفكري، حسب اصطلاحهما، بألا تبدأ في نقد الكاتب أو الكتاب ولا تقل إنك تختلف أو تتفق معهما حتى تنتهي تماما من إدراكك للمكتوب. ولكن قبل ذلك: كيف تقرأ كتابك من الأصل؟

في كتابه المذكور يفرد “عبد الكريم بكار”[4] فصلا كاملا للقراءة التحليلية، فيقسم محاورها على الكتاب تارة، وعلى القارئ تارة أخرى، فيقول -فيما يختص بالكتاب- إن إحكام الفهم يتعزز بكتابة الملخصات حول المقروء، والتي يشدد “مبارك بقنه” على ضرورة كتابتها بأسلوب القارئ وإدراكه لها، وليس بمجرد الاقتباس من الكتاب، على أن تحتوي على “اسم المرجع، ورقم الصفحة.. ويفضل في كتابة المذكرات أن تكون بعد قراءة كل فصل كاملا حتى تكون قادرا على الربط بين التفاصيل والأحداث الهامة”[5].

ثم يقسم “بكار”[4] الكتب نفسها إلى الكتب الأمهات والمراجع التي لا تحتاج للتلخيص بسبب تكرار الرجوع إليها، وكتب القصص والتسالي، وكتب أخرى بين الاثنين، وهي الكتب المعرفية التي يمكن التعامل معها بمنهج التلخيص، أما عن القارئ نفسه، فإنه يرى أهمية تمتعه بالمثابرة والصبر، ثم بالمرونة التي تمكنه من التفاعل مع الكاتب وقطع المسافة بين اللفظ (المكتوب) والمقصد (ما يريده الكاتب من ورائه).

فالقارئ الجيد مستكشف لما وراء النص ومنهجية الكاتب ومقاصده، ويميز بين المعنى اللغوي للمفردات، والمعنى الاصطلاحي الذي يقصده الكاتب من وراء اللفظ، ويميز “بكّار” هنا بين نوعين من الكتابة: الكتابة الصريحة المباشرة في مواضيع القانون والعقائد والفقه مثلا، والكتابة المعتمدة على الخيال والمجاز -كالأدب والفلسفة- وهو التمييز الذي يعين القارئ كثيرا على استعداده النفسي للكتاب.

لذا فإن مناقشة الكتاب، ووضع العلامات والإشارات ستكون ضرورية لإحكام الفهم حسب “مبارك بقنه” الذي يكمل بأن: “هناك بعض القراء يرفضون هذه الطريقة، ولكنني أجد أنها أسلوب فعال لعملية الاستيعاب، وهي تدل على مقدار التفاعل مع الكتاب وإيجاد نوع من النقاش البناء مع ما هو مدون في الكتاب”[5]، وهو في هذا يتفق مع “ديكارت” الذي ينصح القارئ، بعد القراءة الأولى الاستكشافية، بقراءة ثانية متأنية “مع اهتمام أكبر للجدالات المطروحة في الكتاب”، والنقاش مع الكاتب “من خلال صياغتنا بكلماتنا الخاصة”[8].

ما بعد القراءة.. هل انتهى الأمر؟

“لا تستعجل النتيجة”، تلك هي نصيحة “سالم” التي يتبعها بضرورة الصبر على الكتاب والقراءة وعدم الملل من تأخر الشعور بالثمرة؛ لأن القراءة “من أجل البناء الثقافي والفكري وتوفير مادة للفهم وأداة للفعل قد لا تنتج ثمرتها هذه إلا بعد أعوام”[2]، فهي -حسب نصيحة يرويها “سلمان العودة” عن أحد أساتذته- كلقيمات الطعام التي قد تغيب عنك فائدتها المباشرة، “لكنها تغذي جسدك وتقوي صلبك حتى يستتم بنيانه على مر السنين، فتجد الثمرة -وإن كنت قد تغفل عن أن أصلها- هي هذه اللقمة”[2].

فإذا انتهيت من القراءة فإن ذلك لا يعني انتهاء علاقتك بالكتاب، فلتثبيت المعلومات يتطلب الأمر مراجعة ما قرأت، ومعرفة المواضيع التي تحتاج لمراجعتها، وأماكن القوة والضعف لديك، “وخلال مراجعتك لا بد أن تجيب علن جميع الأسئلة التي دونتها خلال قراءتك” من خلال “التحدث والنقاش وتحليل الأفكار المتعلقة بالموضوع؛ بل أحيانا يتطلب الأمر إعادة قراءة فصول كاملة كي تفهم ما قرأت بشكل واضح”[5].

فلو تحقق الفهم بشكل جيد فإن “سالم” ينصحك نصيحة أخرى بأن تكون “شجاع الرأي جبان القول”[2]، فلا تقرأ قراءة المستسلم كما وعاء يصب فيه القول صبا فيعتقد ما يسبق لعقله، ولكن جرب أن تفكر وأن تعترض وأن تقيم نفسك حكما بين الآراء بتوازن”، ففكر مع نفسك فيما تقرؤه، لكن “لا تنطق بشيء من هذا قط لتماري به وتجادل”[2].

فهو ينصح بترك التعجل في بناء التصورات ما دام المرء غير مضطرا لبناء تصوره الآن؛ حتى يستوي منهجه في التفكير، وتصل إليه المعلومات الكافية عن الموضوع الذي يريد تكوين رأي حوله؛ لأن “استمرار حالة الرأي الشجاع، بالتوازي مع استكمال الأدوات، هو الذي يصنع العقل الناقد، واستصحاب جبن القول وعدم الجرأة على التكلم قبل استكمال الأدوات هو الذي يصنع الشخصية العلمية الحذرة، وشخصية الأمين الذي يخشى أن يحمل الناس عنه رأيا لم يُتمه. والجمع بين هاتين هو الذي يصنع العقول المبدعة”[2].

لكن، وفي نهاية الأمر، فإن النصائح الإرشادية الخاصة بالقراءة، والثقافة بوجه عام، لا تزال تحمل في طياتها قدرا من النسبية، تتفاوت على أساسه الفائدة التي يحصلها المرء دون سواه، لذا فإن على القارئ التدرب على بناء ذوقه الخاص، حسب نصيحة “هنري ميللر” القائلة بأن “على كل إنسان وضع أسسه الخاصة به”؛ لأنه “ومهما كانت المادة التي تؤثر بحيوية في شكل ثقافتنا، فإن على كل إنسان أن يقرر لنفسه أي العناصر منها يدخلها في نسيجه الخاص”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.