نشرت صحيفة “الغارديان” مقالا للصحافية نسرين مالك، تتساءل فيه عن سبب استمرار الاهتمام بقضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
وتقول الكاتبة: “لقد فشلت في توقعاتي عندما قلت للمحررين في اليوم التالي لاختفاء جمال خاشقجي، بأنه للأسف، فإن القصة لن تحظى بالاهتمام لأكثر من يومين أو ثلاثة؛ وذلك لأنني سئمت من المدى الذي أصبحت فيه الوحشية السعودية أمرا طبيعيا”.
وتشير مالك في مقالها،، إلى أنه “مضى أكثر من شهر الآن على دخول خاشقجي للقنصلية السعودية في اسطنبول، ولم ير بعدها أبدا، لكن جريمة قتله لم تختف من العناوين الرئيسية، وقد سلطت الضوء على السعودية بطرق حاول الناشطون والصحافيون ومنظمات حقوق الإنسان والسياسيون فعلها لسنوات لكنهم فشلوا”.
وتعلق الكاتبة قائلة إن “هذا ليس لأن خاشقجي كان صحافيا، ولأن الإعلام دائما يدق ناقوس الخطر عندما يتعلق الأمر بواحد منهم، فقد قتل وخطف العديد من الصحافيين، لكنهم لم يحظوا باهتمام الصحافة -ناهيك عن العامة- مثل موت خاشقجي، وليس الأمر لأنه كان صحافيا بارزا ايضا، وكانت له شبكة علاقات جيدة في دوائر الإعلام، لكنه لم يكن اسما مألوفا”.
وتلفت مالك إلى أنه “لم يكن زعيم معارضة، وهناك آخرون أعلى صوتا في المعارضة، وهم منظمون سياسيا في المنفى السياسي، الذين كانوا أهدافا محتملة أكبر لغضب العائلة المالكة السعودية، وأثار اختياره المنفى الانتباه في العالم العربي لأولئك الذين يتابعون تفاصيل الشأن السعودي، إلا أن ذلك لم يجذب الانتباه على مستوى أوسع، وبالرغم من انتقاله للعيش في أمريكا، إلا أن خاشقجي كان يعد دائما منتقدا لطيفا للحكومة السعودية، كان يزن كلماته بحذر، ولم يناد أبدا بتغيير النظام، وكان دائما على اتصال بأعضاء كبار في العائلة المالكة، فبالنسبة لشخص لم يكن معروفا سوى في الدوائر السياسية والإعلامية الداخلية، فإنه لا يمكن فهم السبب الذي جعله خلال أيام من اختفائه على كل لسان في كل مكان”.
وتقول الكاتبة: “لقد كان هناك شيء بالنسبة لهذا الحدث، شيء وقع بطريقة لم يكن يتوقعها أحد، لقد كان هناك عنصر خيانة صادمة، أن يذبح الشخص في قنصلية بلده، مكان اللجوء في أراضي الغربة، كان شبيها بأن يذبح الشخص في كنيسة، أن يستدرج ثم يقتل، لقد كان ذلك انتهاكا للعفو جعل الجريمة أكثر قبحا مما لو تمت تصفيته بشكل عشوائي في أحد شوارع اسطنبول، لقد كان شبيها بعفو صدام عن صهريه اللذين فرا من العراق، ليتم قتلهما بمجرد عودتهما”.
وتبين مالك أنه “على خلفية قتله تجلت الجرائم الأخرى التي ارتكبها النظام السعودي، وأصبحت صفقات السلاح مع المملكة تحت المجهر، حيث توقفت ألمانيا عن أي صفقات جديدة، وفجأة أصبحت الحرب في اليمن، التي حاول المنتقدون لسياسات السعودية تسليط الضوء عليها لسنوات، في مكان أعلى في الأجندة الدولية، وأعطيت التقارير الميدانية من اليمن وأصوات الأطباء الذين يعالجون أطفال المجاعة مساحة إعلامية أكبر بسبب السخط على مقتل خاشقجي، وقال أحد الأطباء لصحيفة (نيويورك تايمز): (نحن متفاجئون بأن قضية خاشقجي حظيت بهذا الاهتمام الكبير، في الوقت الذي يعاني فيه ملايين أطفال اليمن ولا أحد يعيرهم أي اهتمام)، ودعت أمريكا الأسبوع الماضي لوقف لإطلاق النار في اليمن على أن يتم تطبيقه خلال 30 يوما”.
وتعلق الكاتبة قائلة: “لا يمكننا أن نتوقع أي الفظائع تصدم الجمهور وبالتالي تؤثر على حكوماتهم، وهناك نقطة ما، تقاطع بين الاشمئزاز الأخلاقي والشخصنة يطلق التعاطف والغضب، لقد كان بالطبع فشلا بأن العالم لم يعر ما يكفي من الاهتمام للحرب في اليمن، لكنه أيضا جزء من نفسية البشر، التي تجعل بإمكاننا الشعور بوفاة شخص معروف، أكثر من ملايين الأشخاص المجهولين”.
وتذهب مالك إلى أن “جمال خاشقجي كان شبيها بشخصية (الفتاة الصغيرة ذات المعطف الأحمر) في فيلم سبيلبيرغ (قائمة شندلر)، فكان الفيلم كاملا بالأسود والأبيض ما عدا الفتاة الصغيرة فكانت بالألوان، حيث أخذت من بيتها مع عائلتها، وكانت تلعب في الطين في معسكر الاعتقال، ثم تم وضع جثمانها على كومة من الجثامين المحمولة على عربة، وكان ذلك أسلوب رواية قصة ملايين من خلال قصة شخص، ما يجعل القصة أكثر حدة وأكثر إنسانية لإبراز ما يسميه علماء النفس: (انهيار الرحمة)، التي تتجسد في ميولنا الطبيعية لإهمال المعاناة الجماعية”.
وترى الكاتبة أن “هذا هو السبب أن صور الأشخاص الذين يعانون تفرض نفسها على التاريخ، أكثر من التفاصيل الكثيرة التي تعرف عن الحرب والمجاعة، وهذا هو السبب الذي يجعل شخصا واحدا يمكنه تفجير انتفاضات شعبية، مثل بائع الخضار محمد بوعزيزي، الذي أشعل النار بنفسه، فأثار المشاعر في العالم العربي، وهو ما لم تفعله قصص محاكمات آلاف من المساجين والمعذبين”.
وتجد مالك أنه “بدلا من اعتبار هذه القصة مجرد حظ، ومبالغة غير متناسبة في التغطية لقصة شخص من النخبة الإعلامية السعودية، يجب أن تستغل قضية مقتل خاشقجي، واستشهاده في الواقع، لإبراز الوحشية الثابتة للحكومة السعودية تجاه شعبها وأعدائها، بالإضافة إلى أنه يجب أن تثير هذه القضية إعادة تقييم لمنطق الواقعية السياسية الجبانة حول التعاون الأمني الذي يبرر به الحلفاء الغربيون سياسة الإرضاء، التي تهدد في الواقع استقرار الشرق الأوسط”.
وتختم الكاتبة مقالها بالقول: “أثبتت وفاة الأختين السعوديتين، اللتين قدمتا على اللجوء في أمريكا، ووجدتا مربوطتين معا في نهر هدسون، أن هناك مقاربة جديدة، حيث حظيت قصتهما بتغطية إعلامية أكبر مما لو حصلت قبل جريمة القتل في اسطنبول، وقد تكون وفاة جمال خاشقجي مأساة، لكنها ربما تكون ساعدت العالم لأن يرى ما حصل لضحايا الحكومة السعودية كلهم أيضا على أنها مآس بدلا من مجرد أرقام أو أضرار جانبية”.
.
م.عربي21