يعتبر السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) من أكثر الشخصيات الإسلامية الفاصلة في تاريخ الدولة العثمانية (1299-1923).
هذه الأيام تحيي تركيا الذكرى الـ101 لوفاة السلطان عبد الحميد؛ حيث توفي في 10 فبراير/ شباط 1918، ودُفن في مقبرة السلطان محمود الثاني، بعد مراسم تأبين خاصة بالسلاطين.
عبد الحميد الثاني هو السلطان الرابع والثلاثين في الدولة العثمانية، وآخر الخلفاء الأقوياء، وأنجز العديد من الأعمال، التي جمعت الأمة العربية والإسلامية.
من أبرز محطات حكمه، الذي استمر نحو 33 عاما: التصدي للقوى الصهيونية العالمية، التي كانت تسعى إلى السيطرة على فلسطين، وإنشاء سكة حديد الحجاز، وفكرة الجامعة الإسلامية لتوحيد الأمة عبر ربط المسلمين ببعضهم البعض، إضافة إلى محاربة الاحتلال الغربي، الذي كان قد بدأ في السيطرة على العالم العربي والإسلامي.
– بيت المقدس
السلطان عبد الحميد الثاني هو أشهر السلاطين العثمانيين الذين قدموا خدمات للقضية الفلسطينية، عبر التصدي للعصابات الصهيونية التي استهدفت فلسطين.
بدأ عبد الحميد بسن تشريعات لمنع هجرة اليهود إلى فلسطين، ورفض محاولات الاستيطان اليهودية في مدينة القدس.
وبشكل مطلق، رفض عرضا قدمه إليه اليهود، في القرن الثامن عشر، يقوم على تسديد اليهود كل ديون الدولة العثمانية مقابل حصولهم على وطن في فلسطين.
وقال محمد حرب، البروفسور في التاريخ العثماني، للأناضول، إن “السلطان عبد الحميد أصدر في 28 يونيو (حزيران) 1890 إرادة سلطانية بـعدم قبول الصهاينة في الممالك الشاهانية (الأراضي العثمانية)، وإعادتهم إلى الأماكن التي جاءوا منها”.
وأضاف أن “السلطان عبد الحميد لم يتمالك نفسه فطرد (تيودور) هرتزل (1860-1904) وكبير الحاخامات اليهود من حضرته، حين قدما له هذا العرض”.
وتابع: “تم إرسال أمر إلى سفراء الدولة العثمانية في كل من واشنطن وبرلين وفيينا ولندن وباريس بتعقب الحركة الصهيونية وإرسال تقاريرهم أولا بأول إلى السلطان عبد الحميد”.
ولحماية فلسطين من الهجرات اليهودية أصدر السلطان، عام 1876، مذكرة قانونية بعنوان “مذكرة الأراضي العثمانية”، أو باللغة العثمانية “عثمانلي أراضي قانوني”.
وحسب المذكرة، منع السلطان بيع الأراضي العثمانية، خاصة الفلسطينية، لليهود، وجهز وحدة شرطة خاصة لتنفيذ هذا المنع ومتابعته، كما خصص أوقاتا محددة وقصيرة لليهود الراغبين في زيارة فلسطين.
آنذاك اعتبر هرتزل أن السلطان يشكل عائقا كبيرا أمام الأهداف الصهيونية في فلسطين، فقرر التحرك دبلوماسيا لإقناعه بكل الوسائل بحصول اليهود على وطن في فلسطين، وهو ما قوبل بالرفض.
– الحلم القديم
قبل أكثر من قرن، سعى السلطان عبد الحميد الثاني إلى ربط الأقاليم العثمانية بشكل أكبر بإسطنبول، وتوفير الحماية لها، عندما كانت تقرع أجراس الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
ومنذ أن تولى الحكم اهتمت خطته بقطاعي التعليم ووسائل النقل والاتصالات، وأهمها التلغراف وخطوط السكك الحديدية.
ومن فوائد هذا الربط أيضا أن أراضي الجوار، التي يمر بها خط السكك الحديد، ستتطور اقتصاديا، والأهم هو أن ذلك الخط سييسر تنقلات الحجاج.
حينها كان الحجاج يتوجهون من إسطنبول إلى الديار المقدسة عبر قوافل، في رحلة مرهقة للغاية تستغرق شهرين، وسط مخاطر وقوع اعتداءات من جانب بدو.
في البداية، قُدرت التكلفة الإجمالية لمشروع “سكة حديد الحجاز” بأربعة ملايين ليرة عثمانية، ولم تستطع الدولة العثمانية توفيرها، ولم تتمكن من الحصول على قروض أوروبية.
جرى جمع الأموال بالتبرعات، وبدأ السلطان نفسه بالتبرع، فضلا عن الأسرة الحاكمة ورجال الدولة البارزين، وحتى أبناء الشعب تبرعوا بمبالغ كبيرة.
مع نهاية المشروع، بلغت التكلفة الإجمالية 3.5 ملايين ليرة، وهي تكلفة أقل بكثير مما لو كانت شركات أوروبية نفذت المشروع.
وربطت “سكة حديد الحجاز” إسطنبول بمكة المكرمة والمدينة المنورة واليمن عبر دمشق، وبدأ المشروع انطلاقا من دمشق عام 1900.
بعد أربع سنوات تم تشييد 460 كم، وصولا إلى مدينة معان في الأردن، كما جرى ربط الخط بمدينة حيفا الفلسطينية على البحر المتوسط.
وصلت السكة الحديد إلى المدينة المنورة، وتم افتتاحها بحفل عام 1908، وبلغ طول الخط 1464 كم.
انطلقت الرحلة الأولى في 27 أغسطس/ آب 1908، وعلى متنها مندوب الدولة العثمانية وصحفيون محليون وأجانب وضيوف، وتوجه القطار من إسطنبول إلى دمشق ثم المدنية المنورة.
سار القطار بسرعة تراوحت بين 40 و60 كم في الساعة، وهو معدل جيد للغاية في ذلك الوقت.
لم يكن القطار يتوقف إلا لأداء الصلاة والتزود بالوقود، واستغرقت الرحلة ثلاثة أيام للوصول إلى المدينة المنورة.
تضمن المشروع تنفيذ: 2666 جسرا ومنفذا مائيا، وسبعة جسور حديدية، و96 محطة، وسبعة أحواض، و37 خزان ماء، ومستشفيان و3 ورش.
بعد افتتاح سكة حديد الحجاز بدأ تبادل البضائع وانتقال الركاب يوميا بين حيفا ودمشق، وعلى مدى ثلاثة أيام بين دمشق والمدينة المنورة.
وفي موسم الحج، خُصصت ثلاثة قطارات للعمل بين دمشق والمدينة حتى نهاية شهر صفر.
وقال حرب إن “مشروعات السكة الحديدية لدى السلطان عبد الحميد الثاني كانت هي خط سكة حديد الحجاز، وهو ما عبر عنه عبد الحميد قائلا (إن إنشاء سكة الحجاز هو حلمي القديم)”.
وأوضح حرب أن “من فوائد سكة حديد الحجاز أن قناة السويس، التي كانت تسيطر عليها إنجلترا، لم تعد مهمة لدى الدولة العثمانية، كما أن لسكة حديد الحجاز فائدة معنوية للأمة الإسلامية حيث أنشأتها بنفسها”.
– توحيد المسلمين
أراد السلطان عبد الحميد الثاني من مشروع “الجامعة الإسلامية” ربط أجزاء الأمّة، ومقاومة المشروع الصهيوني والماسونية.
لم تظهر فكرة “الجامعة الاسلامية” في السياسة الدولية إلا بعد أن تولى عبد الحميد الثاني الحكم؛ بهدف تدعيم أواصر الأخوة الاسلامية بين كل مسلمي العالم، في الصين والهند وأواسط إفريقيا وغيرها.
وقال حرب إن “فكرة الجامعة الإسلامية استهدفت تحقيق أهداف عديدة، أهمها مواجهة أعداء الدين، الذين توغلوا في المواقع الإدارية والسياسية في الدولة العثمانية، إضافة إلى إنشاء كيان سياسي عالمي، وتوحد المسلمين أمام المد الروسي والأوروبي الاستعماري”.
ومن أهم معالم “الجامعة الإسلامية” في عهد السلطان عبد الحميد الثاني: إنشاء خط سكة حديد الحجاز، تطوير التعليم والاستعانة بالعلماء المسلمين، الاهتمام بعلماء الدين والمتصوفة، مقاومة تسرب أفكار وأخلاق الغرب، ومواجهة المخططات الغربية في أراضي الدولة العثمانية.
ولد عبد الحميد الثاني في إسطنبول، عام 1842، وتوفي فيها عام 1918، وهو السلطان السادس والعشرين ممن جمعوا بين الخلافة والسلطنة، وهو الخليفة الـ113 بين خلفاء الدول الإسلامية المتعاقبة.
وعُرف عبد الحميد الثاني كأقوى وأدهى سلاطين آل عثمان، حيث شهدت فترة حكمه تحولات صناعية وإصلاحات دستورية مهمة، فضلا عن إعادة هيكلة الدولة ومؤسستها، مما وضعه في مواجهة دبلوماسية وعسكرية مع القوى الكبرى الطامعة في أراضي الدولة العثمانية.
.
المصدر/الاناضول