مع إدراك الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم لها، أصبحت ثقافة الـ”صنّاع” المعاصرة منتشرة على نطاق واسع. أين تقف تركيا من هذه الثقافة؟ دعنا نتعلم من “سلجوق كيسير”، مؤسس منصة “متعلمون” (Öğrenenler).
لا بّد أننا جميعاً في مرحلة ما من حياتنا، سمعنا بالعيش في “مجتمع استهلاكي”. فمن الإعلانات التلفزيونية إلى اللوحات الإعلانية، مروراً بالكثير من الأشياء التي تحضنا باستمرار على شراء شيء ما. وكلما اشترينا، شعرنا بالرضا أكثر. إن سبب هذا السلوك هو أننا نكتسب هوية من هذه الأنشطة الاستهلاكية بدلاً من أنشطة الإنتاج. ومع ذلك، ألا تظن أننا بحاجة إلى إيقاف هذا السلوك؟ في الوقت الذي تتطور فيه التكنولوجيا يوما بعد يوم، لماذا لا نستخدمها لإنتاج شيء ما، بدلا من الاستهلاك؟
في هذه المرحلة، ظهرت حركة “صنّاع” كثقافة يجب استكشافها. كلمة “صانع” تعني في الأساس أن يصنع شخص ما، شيئا أو منتجاً ما، من شيء ممكن أو متاح. الهدف من هذه الحركة هو القيام بإصلاح شيء بنفسك، بدلاً من شرائه أو التخلص منه. إن عقلية الحركة، التي توفر أيضًا فوائد للاقتصاد، موجودة منذ أمد طويل بين مجموعات الهواة وأصحاب الحرف اليدوية. ومع ذلك، علمت أن إصدار مجلة “أميريكان مييك” قد أعطى قوة دافعة للحركة في عام 2005.
(سلجوق كيسير، مؤسس منصة “متعلمون”)
تطور ثقافة “صنّاع”:
وبما أن هذه الثقافة تنتشر اليوم في جميع أنحاء العالم، فإن تركيا ليست استثناءً. ومن أجل الحصول على مزيد من المعلومات حول هذه الحركة في تركيا، أجرت صحيفة “ديلي صباح” مقابلة مع “سلجوق كيسير”، مؤسس منصة “متعلمون”، وهي منصة متعددة التخصصات تنقل ثقافة الإنتاج إلى الناس.
و”كيسير” هو أول من ألقى محاضرة عن حركة “صنّاع” في تركيا. فبعد تخرجه من قسم الهندسة الميكانيكية بجامعة غازي عنتاب، حصل على درجة الماجستير من قسم المواد والتصنيع في جامعة إسطنبول التقنية. ولا يزال يدرس علم الاجتماع في برنامج التعليم المفتوح.
خلال المقابلة، أشار “كيسير” إلى أنه اختار دائمًا القسم الذي سيدرس فيه وفقًا لما لا يعرفه. كان هذا مفاجئًا بالنسبة لي نظرًا لأننا نحدد عمومًا أقسامنا وفقًا لقدراتنا. ومع ذلك، فإن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو ثقافة الدراسة التشاركية في الحي الذي أمضى “كيسير” طفولته فيه. قال إن الأطفال في الحي كانوا يعلّمون بعضهم بعضًا، أي أن الأطفال الصغار كانوا تحت وصاية الطلاب الأكبر سنًا. بينما كان تلاميذ الصف الثالث يساعدون تلاميذ الصف الأول، كان تلاميذ الصف الرابع مسؤولين عن تلاميذ الصف الثاني. وكانت الأمور تسير على هذا المنوال. وقال إنه واجه صعوبة في الدراسة الجامعية لأنه اعتاد أن يدرس بهذا النوع من الثقافة التي سادت الحي الذي يقيم فيه. وأشار “كيسير” إلى إنه أعاد إنشاء نظام مشابه لنظام حيّه القديم في الجامعة. لقد كان جيدًا في مادة التصنيع، ووجد أن 12 طالبًا آخرين لم يكونوا جيدين في هذا المقرر ولكنهم برعوا في مجالات أخرى. فقام الطلاب بتعليم بعضهم الموضوعات التي كان كل منهم يجيدها، وبالتالي تمكنوا جميعًا من النجاح في مجالات مختلفة.
أسس “كيسير” منصة “متعلمون” بسبب تأثير ثقافة مجموعة زملاء الدراسة هذه عليه. تم إنشاء المنصة منذ ما يقرب من ثلاث سنوات من أجل تعليم بعض التخصصات للأفراد في سياق حركة “صنّاع”. بعد تدريس هذه التخصصات، تُنشئ المنصة فرقًا ومجموعات من أفراد يتقاسمون نفس الاهتمامات والمعرفة. بعد ذلك، يدخل الجزء متعدد التخصصات، ويجتمع هؤلاء الأشخاص حول غرض مشترك مثل إنشاء منتج، أو إنشاء استشارات، وما إلى ذلك. توفر منصة “كيسير” التدريب في كل موضوع تقريبًا، بما في ذلك التصميم ثلاثي الأبعاد، والرسومات، والرسوم المتحركة، والواقع المعزز والترميز، والتسويق الرقمي، والمعالجة، وتصميم المواقع الإلكترونية، وتطوير الألعاب جنبًا إلى جنب مع التخصصات الأخرى مثل صناعة الألعاب، والموسيقى الحديثة، وتاريخ الفن، والتصوير. أكد “كيسير” أن لديه 12 من الأعضاء “المؤسسين” في المنصة. هؤلاء “المؤسسون” مسؤولون عن 12 مجموعة في المنصة، ويقدمون ورش عمل تدريبية. هم يعملون مع “كيسير” على كل تفاصيل المنصة.
أشار “كيسير” إلى أنه من المهم معرفة حركة “صنّاع” بالتفصيل كخطوة أولى من أجل فهم عملهم بشكل أفضل. وأوضح أن هناك ثلاث كلمات تستخدم لوصف هذه الوظيفة: “مفكر، مصنّع، مبدع”.
على الرغم من أن المفكر يعني شخصًا يعترف بمشكلة ويفكر في حل لها، إلا أن المصنع هو الشخص الذي يصنع ما يراه. مشيرا إلى أن عمل المصنّع هو أن ينسخ شيئًا ما، ذكر “كيسير” أن المبدع هو الذي يخلق فكرة ثم يحولها إلى شيء. وأضاف: “أستطيع أن أقول إن لدينا معادل تركي لكل شيء، مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد والواقع الافتراضي، لكننا بحاجة إلى المزيد من المبدعين الذين يمكنهم إنتاج ما لم ينتج بعد”.
للحصول على معلومات مفصلة عن حركة “صنّاع”، قال “كيسير” إن الحركة تتألف من ثلاث مراحل: “من الصفر إلى صانع”، و”صانع إلى صانع” و”من صانع إلى السوق”. ففي مرحلة “من الصفر إلى صانع”، يتعلم الأفراد تخصصات مختلفة من الأدنى إلى الأعلى. وفي المرحلة الثانية، “من صانع إلى صانع” يشارك فيها الأفراد ما تعلموه مع بعضهم البعض. في الواقع، إنها مرحلة التعلم عن طريق التدريس. أما المرحلة الأخيرة، “من صانع إلى السوق” فهي الجزء التسويقي لما ينتجه الأفراد. قال “كيسير” إن هذا المنتج قد يكون شيئاً ماديًا ولكنه قد يكون أيضًا بمثابة خدمة استشارية أو جدول زمني.
غرس ثقافة “صناع”:
بصفته مؤسس هذه المنصة، يقوم “سلجوق كيسير” أيضًا، بتدريس طلاب المدارس الابتدائية والثانوية. وقال إن هؤلاء الطلاب هم في مرحلة “من الصفر إلى صانع”. إنهم يتعلمون الروبوتات والترميز والبرمجيات. وقال إنه يهدف إلى غرس ثقافة “الصانع” في جيل الشباب، وأنهم سيكونون خبراء بحلول العام المقبل، وسوف يعلمون بعضهم البعض. وأضاف أنهم في عامهم الثالث، سوف يضمّنون جدولهم الزمني والإنتاجي أشياء مناسبة للمسابقات.
“كيسير” هو الفرد الذي بذل جهدًا لنشر هذه الثقافة في تركيا. إنه يعتقد أنه يجب أن يكون هناك المزيد من المنظمات المصنّعة في البلاد. وقال إن معرض التصنيع، وهو مهرجان للاختراع والإبداع والذكاء، وللاحتفال بحركة “صنّاع” أيضاً، أقيم في السابق كمعرض صغير. وأخبرنا أن هذه المعارض الصغيرة يجب أن تستمر مع وصولها إلى المزيد من الناس. وأوصى بتنظيمها بمفاهيم محددة مثل الخشب أو الحديد أو الواقع الافتراضي. على سبيل المثال، يمكن تنظيم معرض خشبي للمتحمسين، ويمكن للناس تعلم كيفية إنتاج تقنيات جديدة ومشاهدتها بهذه الطريقة.
بالعودة إلى رحلة المنصة الخاصة بهم، قال “كيسير” إنهم بدأوا تدريبهم مجانًا ولكنهم أضافوا ثمناً له. السبب في ذلك هو أنهم بحاجة إلى الحصول على مواد لتدريبهم. ولاحظ “كيسير” أيضًا أن الناس مع الأسف، لا يظهرون اهتمامًا كافيًا بالتدريب المجاني.
هذا العام، سوف تتوسع منصة “متعلمون” في الخارج. يخطط “كيسير” وفريقه للمساهمة في السياحة التعليمية من خلال استضافة الأجانب بتدريبهم. على سبيل المثال، سيناقشون أولاً آلية حركة الجناح عند الطيار العثماني “هزارفن أحمد شلبي” الذي عاش في القرن السابع عشر، ومن ثم توفير التدريب على الطائرات بدون طيار. سوف يصنعون نماذج من برج “غلاطة” في تصميم وطباعة ثلاثية الأبعاد. خلال فترة التدريب التي تستمر أسبوعًا، سيتعلم المشاركون الأجانب ثقافة الصنّاع وكذلك الثقافة التركية، وسيتذوقون ثلاث وجبات تركية أيضًا.
.
المصدر/ديلي صباح