الإجابة على السؤال وباختصار أولاً: الواضح هو أن لا رغبة للطرفين التركي والأميركي في التراجع عن عنادهما وقبول الإقدام على الخطوة الأولى، إذا لم نشأ القول أن الكثير من المؤشرات تعكس حقيقة تزايد التباعد وتضارب المصالح بين البلدين في أكثر من ملف ثنائي وإقليمي.
فإلى جانب نقاط التباعد والخلاف التقليدي المعروفة بين أنقرة وواشنطن برز الجديد في الأسابيع الأخيرة والذي يعكس حقيقة أن لا ليونة وحلحلة وفرص الذهاب نحو الهدنة والتهدئة. هناك أولاً الموقف التركي من سياسة أميركا الأخيرة بمنح الجولان لإسرائيل، وثانيا إعلان الحرس الثوري الإيراني من قبل واشنطن وبشكل أحادي منفرد مجموعة إرهابية، ودعوة تركيا لقبول ذلك، ثم هناك عمليات الحشد والتعبئة التي تشرف واشنطن عليها في شرق المتوسط عبر جمع اليونانيين والقبارصة والإسرائيليين وبعض العواصم العربية أمام طاولة يوحدها مواجهة السياسات التركية في المنطقة.
صحيح أن وزير الخزانة والمالية التركي برات البيرق ووزير الدفاع خلوصي أكار كانا في واشنطن قبل أيام على هامش أعمال مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين، وأن رسائل اللقاءات التي تمت على أعلى المستويات بينها لقاء البيت الأبيض كانت إيجابية ومشجعة، إلا أن ترامب لن ينسى بسهولة كيف أن الرئيس التركي أردوغان لم يستقبل في مطلع العام موفديه مستشار الأمن القومي جون بولتون ورئيس الأركان جوزف دانفورد وجيمس جيفري منسق عمليات التحالف الدولي في سوريا خلال زيارتهم للعاصمة التركية. وربما هذا ما دفع بجيفري وقتها لتذكير القيادات التركية ب 3 أهداف وثوابت رئيسية لواشنطن في الملف السوري هي القضاء على تنظيم داعش، وعدم التخلي عن الحليف المحلي “قسد” بمثل هذه السهولة، وإخراج القوات الإيرانية والميليشيات التي تدعمها من سوريا. ما تريده واشنطن يتعارض في العمق مع ما تقوله أنقرة والحديث عن تفاهمات تركية أمريكية جديدة يحتاج إلى أكثر من دليل وموقف ومبادرة.
الإدارة الأميركية تتمسك بأوراقها ومواقفها في الملفات المشتركة التي تجمعها مع تركيا. والقيادة السياسية التركية رغم حديثها الدائم عن عودة العلاقات إلى سابق عهدها تعرف جيدا استحالة إقناع واشنطن بإعطائها ما تريده دون الثمن الباهظ الواجب دفعه: التخلي عن إيران والتراجع عن العناد حيال إسرائيل وقبول ما يريده البيت الأبيض في بناء شبكة تحالفات إقليمية تحمي الموقع والدور الأميركي في المنطقة.
لن تتساهل إدارة ترمب مع أية خارطة تحالفات إقليمية جديدة خارج النفوذ والدور الأميركي. فكيف إذا ما كان المخطط يتضمن استهداف مصالح واشنطن مباشرة عبر عرقلة أهدافها ومشاريعها الإقليمية؟ ولن يقبل أحد في فريق عمل الرئيس ترامب أن يواصل الأخير حديثه عن المصالح والعلاقات التاريخية الأميركية التركية المشتركة وأن تظل أنقرة تردد أن علاقاتها بواشنطن هي محمية منذ عقود ومن الصعب زعزعتها، فيما يتحدث البعض في تركيا عن التمسك بأوراق التنسيق الاستراتيجي التركي مع موسكو وطهران.
مرة أخرى يقال إن تفاهمات المنطقة الآمنة الحدودية في سوريا تتبلور، وأن الإعلان عن ساعة الصفر وصل إلى مرحلته النهائية، لكن المؤكد هو أن واشنطن لن تقبل أن يتم ذلك على حساب حليفها الكردي السوري الذي تحتاجه في مرحلة سياسية ودستورية لاحقة، وأن منظومة التحالفات التي تبنيها واشنطن بالتنسيق مع حلفائها الإسرائيليين وبعض العواصم العربية لن تسمح لأحد بتعريضها للخطر.
من الممكن لأنقرة أن تنجح في كسب اللوبيات الأميركية ومراكز القرار إلى جانبها، لكن هذا يتطلب جهدا وثمنا لا يستخف به والقيادة السياسية التركية وسط كل المعادلات الإقليمية الجديدة وفي مقدمتها توسيع رقعة التعاون مع روسيا واستعداداها للدفاع عن إيران في مواجهة الضغوطات الأميركية تكاد تقول إنها غير جاهزة للدخول في نقاش من هذا النوع حتى ولو عرضت تحالفاتها مع أميركا للخطر.
تردد تركيا أنها تتمسك بتحالفها مع منظومة شمال الأطلسي وأن واشنطن ليست وحدها صاحبة القرار هناك، لكن أنقرة أيضا تتمسك بخطط التنسيق والتعاون مع روسيا وإيران في المنطقة وهي تعرف أن ذلك يتعارض مع مصالح شريكها الأميركي. شعار “الشراكة النموذجية” الذي روج له الأتراك والأميركيين في العقود الماضية تراجع لصالح “الرد الاستباقي” وهو يتقدم نحو التصادم بسبب العنوان الإقليمي الأميركي العريض “إسرائيل أولاً”، حيث تحولت المسألة إلى اصطفافات واصطفافات مضادة .
قيادات في حزب العدالة والتنمية تقول لا يهم أن تقتنع واشنطن فنحن في الطريق الصحيح وسنواصل. إدارة البيت الأبيض بالمقابل تقول إن القرار هو أميركي بالدرجة الأولى وسيبقى كذلك. لكن الواضح أيضا هو أن فريق عمل ترامب سيعمل بنصيحة رياض درار الرئيس المشترك لما يعرف بـ “مجلس سورية الديمقراطية”: “انسحابهم (الأميركيون) سيكون على حساب وجودهم المستقبلي في منطقة الشرق الأوسط، وسيعلنون خسارتهم بذلك أمام حلف الشرق المتمثل بتركيا وروسيا وإيران”.
أعلن رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون، قبل أيام أن القيادة التركية سوف تستخدم الأعوام الأربعة والنصف القادمة من أجل الوصول إلى ثلاثة أهداف رئيسية هي إعداد أرضية راسخة في مواجهة الهجمات الخارجية التي تستهدف الاقتصاد، وتحقيق سلام يسمح بعودة نهائية في أمان للاجئين إلى سوريا، وتحديث الأنظمة الدفاعية العسكرية، بما فيها إس- 400. البعض في تركيا يقول ما هو أبعد من ذلك.. واشنطن تهدر وقت أنقرة الثمين بالمناورات والمماطلة التي لن تنفعها.