تعتبر إسطنبول المدينة الأكبر والأهم في تركيا، فهي تضم ما يزيد على 15 مليون نسمة وتشكّل وحدها حوالي %35 الى %45 من النشاط الاقتصادي للدولة، وفيها قرابة خُمس من يحق لهم التصويت في الانتخابات. تخوّل هذه الحقائق مجتمعة إسطنبول لأن تكون بمنزلة مقياس للتوجّهات السياسية المستقبلية في البلاد، ولأجل كل ذلك قيل في مشهور الكلام المتداول عنها «من يفز بإسطنبول يربح تركيا».
مدركاً أهمّية المدينة ومدى تأثيرها في الحياة السياسية وحظوظ حزب العدالة والتنمية في البقاء في السلطة مستقبلاً، رفض الحزب الاستسلام للنتيجة التي كانت أُعلنت سابقاً والمتمثّلة بفوز مرشّح المعارضة في الانتخابات المحلية أكرم إمام أوغلو، فخسارة إسطنبول لا تعوّض في الحسابات السياسية ومن الممكن جداً أن تكون مقدّمة لما هو أكبر. بعد أقل من 48 ساعة على خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان الحاسم الذي دعا فيه الهيئة إلى إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها، قررت الهيئة بالفعل إعادة الانتخابات المتعلقة بالبلدية الكبرى فقط.
وكما كان متوقعاً، اتهم كثيرون الهيئة بالخضوع للضغوط السياسية، وأكّد آخرون الطبيعية المصطنعة للقرار الذي صُمم على حدِّ قولهم ليناسب متطلبات الحزب الحاكم. لم يقتصر انتقاد قرار الهيئة العليا على المعارضة وحدها، إذ انضم إليها شخصيات وازنة كرئيس الجمهورية السابق وأحد أهم مؤسسي حزب العدالة والتنمية عبدالله غول، ورئيس الوزراء الأسبق وعضو حزب العدالة والتنمية الحالي أحمد داوود أوغلو.
ثلاثة مؤشرات تجدر متابعتها
وبغض النظر عن هذه المواقف، أصبح قرار الإعادة أمراً واقعاً الآن، ومن المتوقّع أن يؤدي الانشغال في ترتيب انتخابات الإعادة الى استهلاك المزيد من الوقت والجهد والمال من الطبقة السياسية والسلطة الحاكمة على حدّ سواء، وهو ما سيترك مضاعفات سلبيّة في المجمل نظراً لتمديده حالة الغموض التي تلف المشهد السياسي والاقتصادي في البلاد. علاوةً على ذلك، ونظراً لمحاولة السلطة والمعارضة الحشد من أجل الحصول على أكبر قدر من الأصوات، ولأنّ المعركة الانتخابية ذات طابع صفري وستتخطى الحيّز البَلَدي إلى النطاق الأوسع، فإنّ الاستقطابان السياسي والاجتماعي سيبلغان مداهما بين الجانبين.
من الناحية النظرية، تعتبر فُرص الربح متساوية لدى الطرفين على اعتبار أنّهما حقّقا نتيجة متقاربة، لكن بما أنّ كل طرف سيحاول أن يزيد من نسبة الأصوات التي يحصل عليها، فهذا يعني أنّ الفريقين سيعتمدان على تكتيكات جديدة. هناك ثلاثة مؤشرات تجدر متابعتها خلال المرحلة القادمة لتقييم مدى حظوظ كل طرف في التغلب على الطرف الآخر.
– المؤشّر الأول هو مؤشر مرتبط بالشريحة التي لم تصوت لأي من الطرفين في انتخابات ٣١ مارس. يبلغ حجم هذه الشريحة حوالي مليون و700 ألف صوت، وإذا ما أضيفت إليها الأصوات غير المحتسبة فسترتفع إلى مليونين. تتضمن هذه الشريحة أصواتاً تنتمي إلى كل الطيف السياسي، ولأنّها تشكّل حوالي 25٪ من حجم الأصوات التي حصل عليها مرشّح السلطة أو المعارضة، فإن نجاح أي منهما في استقطاب الجزء الأكبر منها سيكون كافياً لضمان الفوز.
– أمّا المؤشر الثاني فيرتبط بأصوات الشريحة الكردية. وتضم إسطنبول أكبر تجمّع للأكراد في تركيا وفيها حوالي 1,2 مليون ناخب حزبي كردي. وعلى الرغم من أنّ معظمهم صوّت في انتخابات 31 مارس الماضي لمصلحة مرشّح المعارضة، فإنّهم سيكونوا بلا شك محطّ استقطاب جديد. النائب عن حزب الشعوب الديموقراطية الكردي إمام تاشتجير كان قد أكّد قبل يومين انفتاح الناخب الكردي في إسطنبول على التقارب مع حزب العدالة والتنمية إذا ما قام الأخير بالاستجابة لبعض المطالب.
– وفي ما يتعلّق بالمؤشر الثالث، فهو أصوات قاعدة الأحزاب الصغرى في إسطنبول. وبالرغم من أنّ الشريحة التي صوّتت لهذه الأحزاب بلغ حجمها حوالي 220 ألف صوت، فإنّه من المتوقع لها أن تؤدي دوراً أكبر بكثير من حجمها حال بقي المؤشران السابقان على حالهما في انتخابات الإعادة من دون تغيير يُذكر.
التكتيكات
في إطار سعيهم للحصول على أكبر قدر من الأصوات سيعتمد كل من تحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية وتحالف الأمّة بقيادة حزب الشعب الجمهوري على تكتيات مختلفة قبيل انتخابات الإعادة، حيث من المنتظر أن ترسم هذه السياسات إلى حد كبير مسار الطرفين في معركة الإعادة.
أولاً: إقناع المقاطعين من قاعدته الشعبية بالعزوف عن المقاطعة والذهاب إلى صناديق الاقتراع للتصويت للحزب. ومن المتوقع أن يتم ذلك من خلال اعتماد خطاب متشنّج يؤكد الانتخابات بوصفها معركة مصيرية في وجه مؤامرات داخلية وخارجية وحرب على الاقتصاد ومعركة لتحقيق الأمن والاستقرار. المشكلة في هذا الجانب، أنّ الانتقادات الأخيرة التي عبّر عنها كلٌّ من رئيس الجمهورية السابق عبدالله غول، إضافة إلى تلك التي ذكرها رئيس وزراء تركيا السابق أحمد داوود أوغلو، ستحد على الأرجح من قدرة الحزب على جذب المتردّدين من قاعدته أو الساخطين منهم على الوضع الحالي.
ثانياً: إغراء شريحة أوسع من أكراد إسطنبول بالتصويت لمصلحته. ويبدو أنّ هذه الخطوة قد بدأت فعلياً بسماح السلطات لمحامية زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان بلقائه في جزيرة آمرلي لأوّل مرّة منذ عام 2011، حيث أعلن الأخير رسالة موجهة منه إلى قوات سوريا الديموقراطية يدعو فيها إلى تغليب الحوار والسياسة على القتال في العلاقة مع تركيا.
أمّا التكتيك الثالث: فهو شد العصب القومي لناخبيه من أجل توحيدهم واستقطاب المزيد من القوميين. وقد يأتي ذلك تحت شعار عملية عسكرية أو خطر عسكري خارجي. مجمل الناخبين القوميّين الذي صوتوا في الانتخابات البلدية الأخيرة في إسطنبول بلغ عددهم حوالي 1,4 مليون (ويشمل ذلك حزب الحركة القوميّة المتحالف مع حزب العدالة والتنمية، وحزب «إيّ» المتحالف مع حزب الشعب الجمهوري المعارض) منهم حوالي 850 ألف صوّت لمصلحة مرشّح المعارضة. إذ استطاع حزب العدالة والتنمية حرمان المعارضة من شريحة منهم، أو حصل هو على شريحة إضافيّة، فقد يساعد ذلك في الحصول على النتيجة التي يريدها.
في المقابل ستعتمد المعارضة على ثلاثة تكتيكات أخرى هي:
أولاً: تحفيز من قاطع الانتخابات من قاعدتهم الشعبية بالعودة للمشاركة. معظم هؤلاء هم على الأرجح ممّن كان اليأس قد أصابهم وقرروا المقاطعة حينها لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ حزب العدالة والتنمية سيربح مجدداً وأنّه لا فائدة من الذهاب الى الصناديق للتصويت. لدى هذه الشريحة حافز أكبر الآن للذهاب للتصويت لمصلحة المعارضة لأنّهم أدركوا أنّ الفوز ممكن بالفعل وأنّ «العدالة التنمية» ليس عصيّاً على الهزيمة. ويتم استهداف هذه الشريحة حالياً من خلال الدعاية الإيجابية التي ترفع الروح المعنويّة وتؤكّد القدرة على الفوز مجدداً.
ثانياً: اللعب على وتر معارضة أردوغان وحزب العدالة والتنمية لا سيما أنّ الحزب الحاكم جعل من نفسه هدفاً من خلال خوضه معركة مع جميع الأطراف غير المؤيدة له وحتى مع شريحة من الأطراف الموالية له التي ساهمت في تحقيق النجاح للحزب سابقاً وظلّت حتى الأمس القريب جزءًا منه. هذا التكتيك سيضمن للمعارضة الأصوات الكرديّة المعارضة وربما جزءًا من الأصوات التقليدية لحزب العدالة والتنمية، لا سيما الأصوات التي عبّر عنها غول وداوود أوغلو.
أمّا التكتيك الثالث: فهو تمتين التحالف القائم بين مكوّنات المعارضة الحزبية ليشمل أيضاً إمكان الحصول على أصوات الأحزاب المجهرية الأخرى في إسطنبول. هذه الأحزاب التي يميل معظمها الى المعارضة حصلت على حوالي 220 ألف صوت، واذا ما استطاعت المعارضة إقناعها او بعضها بالانسحاب لمصلحتها او التحالف معها، فستحصل على الأرجح على معظم أصواتها.