لا يفتأ التوتر أن يهدأ في منطقة الخليج العربي التي تغلي مياهها داخل المرجل، وليس من الواضح حتى الآن من سيسلق في تلك المياه. يبدو أن إيران هي الهدف هذه المرة، لكن طهران لم تسلق أبدًا في أي مرجل أشعلت الولايات المتحدة تحته النار وهي تستهدفها، بل إنه في كل مرة جهزت فيه واشنطن مرجلًا لسلق طهران كان ذلك سببًا في سلق طرف آخر.
ثمة حرب باردة بين الولايات المتحدة وإيران منذ اندلاع الثورة الإيرانية، وهي الحرب التي وصلت في كثير من الأحيان إلى شفا نزاع مسلح، لكن المعركة المنتظرة لم تندلع في أي مرة من تلك المرات. وفي ظل أجواء هذه الحرب الباردة شعرت الدول الخليجية وفي مقدمتها السعودية والإمارات أنّ هناك تهديدًا يحدّق بها، فبدأت حالة من التنافس على التسلح من أمريكا وأوروبا لمواجهة هذا التهديد.
وثمة مفارقة مفادها أن كل تهديد جعلت إيران المعادية للولايات المتحدة من خلاله دول الخليج تشعر به؛ أكسب عدوتها واشنطن المزيد من المكاسب، ذلك أن واشنطن واصلت التحصيل المستمر للمقابل الضخم لحماية دول الخليج من التهديد الإيراني الذي صب دائمًا في مصلحة الولايات المتحدة.
وإن المكاسب الكثيرة التي تحققها هذه العداوة هو سبب عدم الإقدام على أي خطوة إيجابية حتى هذه اللحظة للقضاء على التهديد الإيراني إلى الأبد. وفي مقابل ذلك لم تترك الولايات المتحدة مكافأة هذا العدو الذي حقق لها الكثير من المكاسب. ولقد كان التدخل الأمريكي في أفغانستان سببًا في تشكيل مجال انتشار ونفوذ مهم بالنسبة لطهران.
أضف إلى ذلك أنه عقب الانسحاب الأمريكي من العراق، الذي دعمته واشنطن ضد طهران لثماني سنوات، بعد احتلاله جعل العراق دولة واقعة بشكل شبه كامل تحت سيطرة إيران التي نجحت في جهة من التخلص من عدوها الأزلي صدام وكذلك إضافة دولته إلى مناطق نفوذها.
وبالنسبة لسوريا فإن التدخل الأمريكي في الحرب الأهلية المندلعة هناك، صب في مصلحة بقاء الأسد والقضاء على معارضيه الحقيقيين أكثر من إسقاط نظام دمشق، وهو الأمر الذي كان سببًا في زيادة النفوذ والقوة الإيرانية في سوريا. وأما الحرب التي أشعل التحالف الدولي ضدّ الحوثيين فتيلها قبل 4 سنوات في اليمن فلم تسفر عن شيء سوى زيادة النفوذ الإيراني في اليمن.
وأما اليوم فإن المياه تغلي من جديد؛ إذ أصبح الرئيس الأمريكي ترامب هو من وضع أول قطعة حطب أسفل هذا المرجل الجديد بعد إعلانه الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وتقديمه شروطًا جديدة وقراره بفرض عقوبات جديدة إلى أن تنصاع إيران لهذه الشروط. وأما طهران فكانت تنصاع لشروط الاتفاق النووي الذي كانت إدارة أوباما قد وصفته بالنصر الكبير واعتبره العالم مساهمة جدية في السلام العالمي.
غير أنه في الوقت الذي كانت فيه إيران تقود بذلك فإنها كانت تواصل نشر أنشطتها التوسعية والمذهبية المعادية لدول الخليج في اليمن وسوريا. كما كانت تواصل الحرب الباردة مع الدول الإسلامية وتزيد من نيرانها في حين أنها كانت قد توصلت إلى اتفاق محدد مع الغرب. وكانت إسرائيل هي كذلك الدولة التي واصلت معها إيران الحرب الباردة. بيد أن إدارة ترامب أشعلت فتيل حرب باردة جديدة مدعومة بالعقوبات المفروضة على إيران بضغوط مشتركة من السعودية والإمارات وإسرائيل.
كنت المرحلة الأولى من هذه العقوبات تتضمن شروط حصار شديدة لا تستطيع طهران بسببها إنتاج نفطها وتصديره بأي حال من الأحوال في نهاية فترة الستة أشهر للإعفاء من العقوبات المقدم لثماني دول من بينها تركيا. بيد أن تعتمد إيرادات إيران بشكل كبير على النفط. ولهذا فإن حرمانها من تصدير نفطها يعني قطع كل الموارد المادية عنها.
وأما إيران فقد ردت متحدية بقولها إنها إن عجزت عن تصدير نفطها فإنها لن تسمح لأحد في الخليج بتصدير نفطه، وإنها مستعدة – إن لزم الأمر – لإغلاق الخليج. وردًّا على هذه الخطوة، أرسلت واشنطن إلى منطقة الخليج مجموعة حاملة الطائرات USS Abraham Lincoln ومقاتلاتها المعروفة باسم B-52، لتزيد من سخونة مياه المنطقة.
وأما الحوثيون المدعومون من إيران فقد استهدفوا أمس خط الأنابيب الذي ينقل النفط من شرق السعودية إلى الساحل الغربي في منطقة ينبع بواسطة طائرات بدون طيار، وهو ما جعلها تتفوق بشكل كبير في هذا الصراع. ولقد برهن هذا الهجوم بشكل مفاجئ على أن الحوثيين، الذين يعتبرون جماعة صغيرة الحجم يحاربها تحالف دولي قوي يضم الولايات المتحدة منذ 4 سنوات، لا يزالون قادرين على شنّ هجمات في الداخل السعودي عند الحاجة.
وتكون رسالة قد أوصلت للجميع مفادها أنه عندما تمنع إيران من تصدير نفطها فإنها قادرة على استهداف خطوط أنابيب نفط السعودية والإمارات العضوتين بالتحالف الدولي المعادي لها.
لكن الأهم من ذلك أن السعودية، التي أغدقت أموالًا لا حصر لها على الولايات المتحدة لسنوات من أجل التسلح للدفاع عن أراضيها ضد التهديد الإيراني، عجزت عن الدفاع عن أراضيها في مواجهة هجوم بطائرات بدون طيار نفذته جماعة الحوثي.
إن ما حدث كان سببًا في فتح نقاش جادة في ظل هذه الأجواء؛ إذ كنا قد استمعنا لترامب وهو يفتخر كيف تحمي بلاده السعودية. فهل واشنطن لم تقدم الدعم لحماية الرياض من هذا الهجوم؟ أم لم يكن هذا الدعم كافيًا لمنع الهجوم؟ وعلى كلّ، فإنّ كلًّا السؤالين من النوع الذي يجعل على الرياض إعادة النظر بعلاقتها بواشنطن.
وإذا لم يكن هذا الدعم كافيًا، فما داعي دفع كلّ هذه الأموال للولايات المتحدة؟
لكن إذا كانت السعودية لديها نظام دفاع كاف لكنه لم يستخدم للردّ بشكل مقصود، فهذا يعني أن واشنطن تسعى لإخافة الرياض أكثر من التهديد الإيراني للحصول منها على مزيد من الأموال. وربما كذلك تكون الولايات المتحدة تستعد لتقديم اليمن لإيران على طبق من فضة بعدما عجز تحالف السعودية – الإمارات – مصر عن إنجاز أي شيء في اليمن على مدار 4 سنوات، بالضبط كما تقدم هدية لطهران في نهاية كل أزمة من الأزمات التي شهدناها في الماضي.
ولو كنت شخصيًّا مكان هذا التحالف ما كنت فرحت لأنّ الولايات المتحدة تجهز مرجل ماء مغل من أجل إيران، ذلك أنه ليس من الواضح إلى هذه اللحظة من سيسلق ف هذا المرجل.
.