الرقم التقديري لحجم التبادل التجاري بين تركيا والسودان لا يتجاوز المليار دولار. لكن أنقرة وفي الأعوام الأخيرة وفي إطار استراتيجية الانفتاح على القارة السمراء وقعت مع الخرطوم عقود مشروعات واستثمارات تصل قيمتها لمليارات الدولارات، بينها اتفاقية عام 2014 ويتم بموجبها تأجير تركيا أراض زراعية في السودان بمساحة 780 ألف هكتار مدة 99 سنة وفي ست مناطق مختلفة من البلاد. وهناك اتفاقية موقعة بين الحكومة السودانية وشركة “صوما” التركية حول بناء مطار الخرطوم، بعد أن فازت الشركة بمناقصة المشروع الذي تصل قيمته إلى 1.1 مليار دولار. واتفاقية التنقيب عن النفط بقيمة 100 مليون دولار الموقعة عام 2018. وعقد إنشاء مصنع غزل ونسيج تركي بقيمة 100 مليون دولار.
لكن الأهم بين كافة هذه العقود والاتفاقيات كان حتما في جزيرة سواكن وبعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الخرطوم أواخر عام 2017، حيث تم التوقيع على اتفاقية تسليم إدارة الجزيرة السودانية الواقعة في البحر الأحمر إلى تركيا لإعادة إعمارها والاستثمار فيها في إطار عقود طويلة الأمد.
حديث مصري إماراتي سعودي يتكرر في الآونة الأخيرة حول ضرورة تعليق اتفاقية سواكن الموقعة مع أنقرة بهدف تحويلها إلى مركز سياحي إقليمي وحيث بدأت الشركات التركية العمل هناك منذ أكثر من عام والتي رافقها اتفاقية سودانية قطرية بمليارات الدولارات لتحديث وتفعيل ميناء الجزيرة.
هل يأخذ المجلس العسكري السوداني بما تقوله هذه العواصم حول مسعى تركيا لتوسيع وجودها العسكري في أفريقيا وفي الخليج والبحر الأحمر ومحاولة بناء قاعدة عسكرية ومنشآت بحرية في سواكن، بحيث تكون المركز الثالث للوجود العسكري التركي في المنطقة؟ ما هو مصير كل هذه الاتفاقيات بعد الإطاحة بنظام عمر البشير ومسارعة بعض الأصوات في الداخل والخارج للترويج إلى إلغائها من جانب واحد؟ أم أن القيادات السودانية ستنجح في الفصل بين الملفات الأمنية والسياسية وحاجة البلاد إلى مشاريع استثمار وتنمية عملاقة من هذا النوع؟ هل ما يجري اليوم هو أن أنقرة ستدفع ثمن علاقاتها الوثيقة بحكم البشير أم ثمن بروز التكتل العربي الجديد بقيادة مصرية سعودية لمواجهة سياسات تمددها في العمق الافريقي الخليجي العربي؟
من المبكر الحديث عن مآلات التطورات في السودان على مستوى العلاقات التركية السودانية في الوقت الراهن، لأن هناك عوامل إقليمية ودولية تدخل على خط التطورات في السودان، وربما يحدث طارئ يدفع بالكثير من الأمور نحو مسار آخر أكثر تعقيداً أو حلحلة مفاجئة. لا أحد يعرف تماما كيف ستكون عملية التغيير والانتقال بالسلطة من مرحلة إلى أخرى لكن المقلق هو تزايد سيناريوهات واحتمالات التدخلات الخارجية في الملف.
ما يجري في السودان لا يمكن فصله بسهولة عن حقيقة إعلان وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو أن تركيا معنية تماما بما يجري في إفريقيا والبحر الأحمر والخليج، وأن الحراك التركي الإقليمي في العقد الأخير نحو إفريقيا وصل إلى 18 زيارة للرئيس التركي أردوغان نحو القارة السمراء خلال الأعوام الثلاث الماضية وأن حجم التبادل الدبلوماسي بين تركيا وإفريقيا زاد بنسبة 7 أضعاف. وما طرحه أحد كبار الضباط المصريين قبل فترة اللواء مصطفى كامل قائد قوات الصاعقة المصرية الأسبق، أنّ جزيرة “سواكن” هي أرض مصرية وأن المواجهة بين أنقرة وبعض العواصم العربية وإسرائيل في إفريقيا تأخذ منحا تجاريا من خلال التحكم في خطوط نقل المواد الخام والطاقة والوصول إلى المعابر المائية.
فهل هذا يعني أن القاهرة ستتحرك لاستردادها إذا ما فشلت في قطع الطريق على التفاهمات التركية السودانية؟وأن مجموعة من العواصم العربية بقيادة القاهرة تحاول اليوم لعب الورقة السودانية كما هو الحال في ليبيا وسوريا والصومال والأزمة القطرية ضد تركيا. وأن التقارب الأخير بين أنقرة ونظام عمر البشير وترجمته إلى اتفاقيات تعاون استراتيجي هو الذي أقلق هذه العواصم ودفعها للاصطفاف بهدف ضرب هذه التفاهمات التي تفتح الطريق أمام التمدد الاستراتيجي التركي في إفريقيا ومنطقة البحر الأحمر والخليج.
إلى جانب حقيقة فشل الدائرة الثالثة التي ينتمي السودان إليها وهي المجموعة الإفريقية في التوسط وتقديم الحلول للأزمة السودانية حيث كان العكس هو الصحيح انقسام واصطفافات إفريقية حول الملف السوداني ساهمت في إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم. وفشل القوى السودانية الكبرى حتى الآن في الجلوس أمام طاولة حوار وطني حقيقية.
وكذلك فشل المجموعة العربية التي كان لها تجربة مريرة عام 2011 مع خطوات الذهاب بالبلاد نحو مشروع التقسيم ودعمه من قبل غالبية هذه الدول في تقديم أية حلول ووساطات حقيقية. النزاع المائي على نهر النيل زاد من تعقيدات المشهد بسبب التباعد بين الخرطوم والقاهرة في ملف حياتي إنمائي حساس انعكس مباشرة على علاقتهما السياسية والاقتصادية.
هناك اليوم انقسامات إقليمية ودولية حول الأزمة في السودان. وعجز مجلس الأمن الدولي عن اتخاذ القرار المناسب بشأن تسوية الأزمة السودانية. فكيف ستنعكس كل هذه الخلافات والاصطفافات على الداخل السوداني لاحقا؟
هل ما يجري في السودان اليوم هو شأن سوداني فقط؟ لا طبعا: إشعال الفتيل في السودان قابل في كل لحظة للتحول الى بركان ثائر يهدد بانفجار الكثير من المعادلات والتوازنات داخل دول الجوار السوداني.
هناك حاجة ماسة لحوار سوداني سوداني حقيقي شفاف وسريع بعيدا عن التدخلات الخارجية وخارج محاولات العسكريتاريا السودانية تقليد البعض في فرض هيمنتها على المشهد السياسي والدستوري.
هل إسقاط نظام البشير كان جزءا من الحرب على أنظمة الإخوان في المنطقة أم أن الهدف كان فتح الطريق أمام مسار ديمقراطي حقيقي في البلاد أم هو عقاب له على انفتاحه على تركيا وبعض العواصم الإقليمية؟
أخطاء المجلس العسكري الحاكم اليوم لا تتوقف عند الانقلاب وفرض رؤيته على الشعب السوداني بل لجوئه لاستخدام العنف وتحمل مسؤولية مقتل العشرات من المدنيين بتبريرات استهداف الجنود من قبل مجموعات إرهابية متطرفة تحاول الاحتكام إلى لغة الفوضى والعنف. ثم تبرير أسلوب اللجوء الى القوة لتعطيل استخدام القوة في محاولة لقمع المظاهرات وموجات الاحتجاج السلمية.
أقلام عربية منفتحة على مصر والإمارات تقول لنا إن “الحراك السوداني بدأ شعبياً عفوياً سلمياً، لإسقاط ديكتاتور السودان وربيب جماعة «الإخوان» عمر البشير “، وإن حراك الشارع الجديد قد يعرقل أعمال الحكم العسكري ويضعف الجيش السوداني وهو ليس في مصلحة السودان ولا ثورته، فبلاد بلا جيش ستكون فريسة سهلة للميليشيات والفوضى والإرهاب، ولعل المشهد الليبي حاضر في الذاكرة القريبة قبل أن ينهض الجيش الليبي ويستعيد زمام المبادرة ويلاحق الميليشيات التي أفسدت النسل والحرث. يراد لنا قبول الخضوع للعسكريتاريا ولقمعها وفاشيتها مع التلويح بالعصا من تحت الطاولة. الشعب يريد التغيير. الجيش يتدخل من أجل التغيير أيضا. لكن الفارق هو أن البعض داخل المؤسسة العسكرية السودانية يريد فرض رؤيته وقراراته في رسم مسار التغيير ليكرر ما حدث ويحدث في دول المنطقة منذ الخمسينيات وحتى اليوم.