المعيارَيْن الرئيسين اللذَيْن سيحددان النتيجة إلى حد كبير هما: مدى قدرة كل من الحزبين على إقناع الناخب بصدق سرديته؛ ومدى قدرة كل منهما على إقناع فئات جديدة بالتصويت له ولكن دون خسارة جزء ممن كانوا صوتوا له سابقاً.
في الثاني والعشرين من مايو/أيار الفائت، أعلنت اللجنة العليا للانتخابات في تركيا النتائج الرسمية والنهائية للانتخابات البلدية التي أجريت في الـ31 من مارس/آذار، إضافة إلى مسوغات قرارها إعادة انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى في الثالث والعشرين من يونيو/حزيران الحالي.
وفق تلك النتائج، كان الفارق بين أكرم إمام أوغلو مرشح حزب الشعب الجمهوري وتحالف “الأمة” وبين بن علي يلدرم مرشح العدالة والتنمية وتحالف “الشعب” 13 ألفاً و 729 صوتاً.
وفي مدينة يربو عدد مقترعيها على 10 ملايين، يمكن القول إن هذا الفارق الضئيل ينبئ بمنافسة شرسة في انتخابات الإعادة، ما يُحويج الطرفين إلى سرديات مقنعة للناخب وأسس يبنى عليها خطاب الحملات الانتخابية، وهو ما يبدو أن الطرفين قد استقرا على خطوطه العريضة، إذ يمكن بوضوح ويسر تلمُّس سردية كلا الطرفين إضافة إلى خطوط عامة وأخرى تفصيلية لحملة كل منهما الانتخابية.
في ظل التقارب الشديد في الأصوات وبالتالي أهمية كل صوت وكل ناخب حرفياً، يجتمع العدالة والتنمية والشعب الجمهوري على سياق عام للحملة الانتخابية، مفادها باختصار تثبيت الناخبين الذين صوتوا لمرشحهم، ومحاولة الكسب من الطرف الآخر، والتأثير قدر الإمكان على الذين قاطعوا الانتخابات السابقة لا سيما وأن نسبتهم (15.7% تقريباً) قادرة على الحسم في ظل هامش الفارق البسيط بين المرشحَيْن.
ولذا، يعمد كل من الحزبين المتنافسين إلى التحشيد بكل الوسائل المشروعة الممكنة ويستخدم لها السردية التي يعتقد أنها الأنجع.
سردية حزب العدالة والتنمية
يسعى العدالة والتنمية في حملته الانتخابية لكسب ثلاث فئات مهمة في انتخابات الإعادة، وهم: المقاطعون، والمتحفّظون من كوادره وأنصاره، وكذلك الصوت “الكردي” في إسطنبول والمقصود به أنصار حزب الشعوب الديمقراطي.
في محاولة إقناعه للفئتين الأولى والثانية يستخدم الحزب سردية “التزوير والتلاعب بالنتائج وسرقة الأصوات”. وكذلك التحذير والتخويف من فوز مرشح المعارضة مرة أخرى في محاولة لتكرار سيناريو انتخابات حزيران/يونيو 2015 البرلمانية، والتي خسر فيها الحزب الأغلبية البرلمانية قبل أن يعود لنسبة %49.5 بعد خمسة أشهر في انتخابات الإعادة.
ويحتل “المقاطعون” للانتخابات السابقة مركزاً متقدماً في أولويات اهتمام العدالة والتنمية بسبب الانطباع السائد بأن طيفاً واسعاً منهم من أنصاره والمصوتين له تقليدياً.
الصوت الكردي
لكن تركيز الحزب الأكبر ينصبُّ على الصوت الكردي في مدينة إسطنبول في ظل قناعة مختلف الأطراف أن الأخير كان حاسماً في ترجيح كفة مرشح المعارضة في إسطنبول. ولعل الإشارات الأكبر والأهم من العدالة والتنمية تقع في هذه المساحة تحديداً أكثر من غيرها، إذ تراجع بشكل ملحوظ خطاب “الخطر الوجودي” الذي ساد في الحملة الانتخابية السابقة المستهدف لحزب PKK وحزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي)، ليحل مكانه خطاب “تحالف تركيا”.
أكثر من ذلك فقد اتخِذت عدة خطوات واضحة لمغازلة الناخب “الكردي” مؤخراً في مقدمتها السماح لمحامي زعيم PKK عبد الله أوجلان بزيارته في سجنه بعد منع دام ثماني سنوات، ثم السماح لأخيه بزيارته في عيد الفطر، وزيارة يلدرم لمدينة دياربكر ذات الغالبية الكردية، وتحدثه أمام الجماهير بكلمة تضمنت إشارة إلى ممثل منطقة “كردستان” خلال فترة النضال الوطني وحرب الاستقلال، في دلالة لا تخفى.
سردية حزب الشعب الجمهوري
في المقابل، يسعى حزب الشعب الجمهوري لتثبيت وتكثيف إقتراع أنصاره، وأنصار كل من حزبَيْ “إيي” والشعوب الديمقراطي لمرشحه. ولذلك مثلاً يُلاحظ تجنب إمام أوغلو توجيه هجوم لاذع أو نقد مباشر لحزب PKK وحتى لجماعة كولن مكتفياً بإشارات عامة حول مكافحة الإرهاب. في المقابل، يسعى الرجل لكسب أصوات محافظين وإسلاميين من أنصار العدالة والتنمية.
ولهذا الهدف تحديداً، يستثمر الشعب الجمهوري في سردية “المظلومية” وأحقيته برئاسة البلدية التي “سلبت منه دون وجه حق” من جهة، ويستمر في رسم صورة الإنسان الهادئ المتقبل لكل الآراء والخلفيات في خطابه وبرامجه، وإن خانه التوفيق في بعض لقاءاته الإعلامية مؤخراً.
الأحزاب الصغيرة بيضة القبان
إضافة إلى السياق السابق، المتعلق بالناخبين كأفراد، ثمة نهج يحاوله الطرفان فيما يتعلق بالأحزاب، وتحديداً الأحزاب الصغيرة التي حصلت في الانتخابات الأخيرة على قريب من فارق التصويت بين إمام أوغلو ويلدرم، إذ يسعى كل من العدالة والتنمية والشعب الجمهوري لكسب دعم هذه الأحزاب الصغيرة وضمان سحبها لمرشحيها لصالح مرشحه.
وقد نجح الشعب الجمهوري في ذلك حتى اللحظة مع كل من اليسار الديمقراطي (حصل على حوالي 30 ألف صوت) والشيوعي التركي (حوالي 10 آلاف) إضافة لمرشحة مستقلة كانت حصلت على 2430 صوتاً.
فيما رأى الكثيرون في إصرار حزب السعادة على خوض انتخابات الإعادة بمرشحه (حوالي 103 آلاف) حرصاً على الخصم من رصيد يلدرم من أصوات أنصاره المتدينين والمحافظين، باعتبار أن تخييرهم بين يلدرم وإمام أوغلو قد يصب في مصلحة الأول بينما قد يختار أغلبهم مرشح حزبه الخاص بأريحية تامة.
في المحصلة، دخلت الحملات الانتخابية خلال شهر رمضان في فترة من الجمود ويتوقع لها أن تسخن من جديد، وإن كانت التوقعات تصب في صالح تجمعات صغيرة كثيرة وليس بالضرورة عدداً كبيراً من المهرجانات الجماهيرية الحاشدة بسبب ضيق الوقت وأسباب أخرى.
لكن الأهم من كل ما سبق هو مدى تأثيره على قناعات الناخبين في مدينة إسطنبول في المدة الزمنية القصيرة المتبقية حتى يوم الاقتراع، وبالتالي القدرة على تعديل النتيجة لصالح أحد المرشحين الرئيسين.
ولعل المعيارَيْن الرئيسين اللذَيْن سيحددان النتيجة إلى حد كبير هما مدى قدرة كل من الحزبين على إقناع الناخب بصدق سرديته وبالتالي التصويت له وخصوصاً من الذين كانوا قاطعوا الجولة الأولى، ومدى قدرة كل منهما على إقناع فئات جديدة بالتصويت له ولكن دون خسارة جزء ممن كانوا صوتوا له سابقاً بسبب اختلاف الخطاب وتبدُّل المواقف، وهي حسابات دقيقة وحساسة جداً لن يتضح أثرها إلا مساء انتخابات الإعادة في الثالث والعشرين من هذا الشهر.