تركيا والتسخين الإقليمي

تتواجد تركيا وسط ساحة جغرافية دائمة السخونة والتقلبات الاستراتيجية في العلاقات بين دول الجوار والدوائر المحيطة بها. الهوية الدينية والعرقية والعوامل التاريخية والجغرافية لعبت دائما الدور المؤثر في رسم السياسات التركية. العديد من الدول والتكتلات الإقليمية والدولية هي تحدد سياساتها التركية أخذت بعين الاعتبار العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية والأمنية كمؤثر أساسي في تحديد حساباتها وقراراتها أيضا.

ثم هناك حقيقة إقليمية أخرى تعني تركيا وهي أنه رغم الصعود والهبوط الدائم في لعبة موازين القوى الإقليمية التي تعنيها مباشرة حسب التمركز الاقتصادي والعسكري، يظل حجم التدخل الخارجي ومصالح الدول الكبرى عاملا  أساسيا في رسم سياسات المنطقة ومستقبلها وهو ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في كل خطوة وقرار.

في العلن هو تنافس تركي إيراني مصري سعودي إسرائيلي على الزعامة العربية والإسلامية والشرق أوسطية، لكن ميزة المواجهات في المنطقة هو الاصطفافات الحاصلة بين هذه البلدان ثم الدعم الدولي الذي تحصل عليه بحسب تداخل المصالح والعلاقات مع أميركا وروسيا والصين وبعض العواصم الأوروبية.

تركيا اليوم وبعد إطلاق سياسة اختراق وتمدد وانتشار في ساحات واسعة تشمل العديد من الدول العربية والإسلامية ومناطق النفوذ البحري والاقتصادي والأمني في سوريا والعراق وإفريقيا وآسيا الوسطى إلى جانب تمسكها بعلاقاتها مع الدوائر الغربية الكثيرة، أقلقت بتحركها الاستراتيجي هذا العديد من منافسيها وخصومها ودفعت بعضهم لتشكيل تحالفات وتكتلات مضادة في مواجهة السياسة التركية الإقليمية الجديدة.

التموضع التركي الإقليمي الجديد من جهة وتمركز تركيا في الكثير من البقع الجغرافية والسياسية والأمنية وحالة التفكك والفراغ الاستراتيجي الواسع لعب دورا أساسيا في إزعاج البعض وإثارة غضبهم ودفعهم نحو التوحد للوقوف في وجهها والتصدي لسياساتها.

التوتر التركي الأميركي والتركي الأوروبي والتركي العربي والتقارب التركي الإيراني والتركي الروسي كما يرى خصوم تركيا هو في مقدمة أسباب ونتائج هذا الحراك الجديد الذي تبنته أنقرة في سياساتها الإقليمية مؤخرا.

المشهد القائم اليوم بالنسبة للكثيرين هو أن تركيا في سياستها الخارجية تعاني في هذه الآونة من مشكلة متابعة التقلبات والتطورات السياسية والأمنية الإقليمية وضرورة تبني سياسة مختلفة في علاقاتها بالعديد من الشركاء والحلفاء وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الاميركية وروسيا بعيداً عن طروحات القوة الإقليمية المستقلة القادرة على التأثير في صناعة القرار حسب تطلعات حزب العدالة والتنمية الموجود في السلطة منذ 17 عاماً.

الملف الإيراني سيكون الاختبار والمواجهة الأولى والأهم بالنسبة لتركيا وعلاقاتها العربية والغربية. ما الذي ستفعله أنقرة وكيف ستتصرف إذا ما تمسكت أميركا بخيار إخراج إيران من المعادلات في الكثير من الملفات بدعم أوروبي عربي إسرائيلي؟ أنقرة هي التي تظهر اليوم وكأنها انحازت إلى جانب روسيا في دعم الموقف الإيراني فهل سيكون بمقدورها التخلي عن سياستها الخليجية الكلاسيكية والوقوف إلى جانب طهران بعدما كانت تبلغ مجلس التعاون الخليجي قبل أعوام أن الأمن هناك هو جزء من الأمن القومي الإقليمي التركي؟

الأرقام والتحليلات الكثيرة تتحدث عن تزايد النمو الاقتصادي التركي بين عامي 2002 و2011 بمعدل 7.5 في المئة سنوياً، فيما ارتفع متوسط دخل الفرد من 2800 دولار أمريكي في عام 2001 إلى حوالي 10 آلاف دولار أميركي في عام 2011. ومنذ عام 2002، ارتفع معدل تلبية صناعة الدفاع التركية المحلية لمتطلبات التسليح من 24 إلى ما يقرب من 70 في المئة وما زال في ارتفاع متواصل.

اقرأ أيضا

الصبر مفتاح الفرج

استراتيجيا وأمنيا القواعد العسكرية التركية متواجدة في دول أسيوية وإفريقية عديدة بينها أذربيجان وجمهورية شمال قبرص وقطر والصومال وغيرها من الأماكن، وهو ما يعكس حقيقة نية تركيا في لعب الدور الإقليمي الاستراتيجي الريادي. لكن هناك بالمقابل بعض الحقائق التي لا يمكن تجاهلها في تركيا:

– إسرائيل قد تخرج الرابح الأول من الاصطفافات الإقليمية الجديدة بسبب الأزمات الكثيرة التي تحيط بها وتخدم أهدافها السياسية والأمنية وهي تقدم القليل مقابل الحصول على الكثير من التنازلات والدعم مستغلة تأزم العلاقات بين دول المنطقة والدعم الأميركي الواسع الذي تحصل عليه إلى جانب الاستفادة من مسألة عدم خسارة علاقاتها الاستراتيجية بروسيا.

– هناك أيضا مصر التي تحاول استرداد ما فقدته في الأعوام الأخيرة من نفوذ وثقل عربي وإسلامي وإفريقي. هي تريد ترتيب شؤون البيت الداخلي أولا والخروج من ارتدادات المشهد السياسي السلبي الإقليمي ثانيا وبناء منظومة علاقات إقليمية تقربها أكثر من إسرائيل وبعض القوى الفاعلة لتأخذ مكانها وسط خارطة تحالفات جديدة تتشكل يوما بعد آخر.

– تركيا في سياستها الخارجية قبل أعوام كانت تتطلع إلى البحث عن الفرص بدلا من الدخول في عمليات الاصطفاف والمواجهات. لكنها اليوم تجد نفسها تفعل العكس في التعامل مع العديد من القضايا وتنتقل من التلويح بالتصعيد والتحدي والمواجهة من أجل حماية الفرص التي حصلت عليها. مشكلتها الأكبر ستكون محاولات إبقاء حلفائها الإقليميين الذي نسقت معهم في ليبيا والسودان والخليج وإفريقيا والشرق الأوسط إلى جانبها باستمرار.

– تركيا تعاني اليوم من تأزم في علاقاتها مع الكثير من الدول واللاعبين السياسيين في المنطقة. اختلفت وجهتا النظر التركية والأميركية حيال مصادر التهديد في المنطقة، ممّا عرقل قدرتهما على التعاون بفعالية أكبر كما يرى العديد من الأقلام والخبراء. مشروع عضويتها الأوروبية إلى جانب تواجدها في حلف شمال الأطلسي بين مراكز القلق التركي هذه المرة.

– التقارب والانفتاح التركي الروسي مهم والعنوان العريض هنا هو البراغماتية. لكن هل يعني ذلك أن روسيا ستعطي أنقرة ما تريدها عندما تصطدم المصالح والحسابات؟ محاولات جادة باتجاه محاصرة السياسات التركية والإيرانية الإقليمية رافقها اصطفاف عربي غربي بدعم إسرائيلي وتغاضي روسي حيال هذه السيناريوهات. فكيف سنثق بموسكو وإلى متى؟

– تقلبات سياسية وأمنية متلاحقة في المشهد الاقليمي تضع التحركات والمواقف التركية تحت المجهر الاستراتيجي مرة أخرى. تركيا في الأعوام الأخيرة تدخلت عسكريا وأمنيا في العديد من المناطق والساحات العربية والإفريقية وتعاني من تراجع حلم العضوية الأوروبية وتواجه تراجعا دائما في علاقاتها مع أميركا في أكثر من ملف ثنائي وإقليمي وتعتمد سياسة انفتاح وتنسيق متزايد مع روسيا مما يغضب العواصم الغربية ويقلق العديد من الدول الإقليمية وتحاول التصدي لاستهدافها اقتصاديا وماليا بسبب صعودها الإنمائي الواسع ونجاحها في الجلوس حول طاولة مجموعة العشرين رغم كل جهود إبعادها.

أنقرة ترصد عن قرب تطورات المشهد في شمال إفريقيا والسودان واحتمالات الانفجار الواسع في الملف الايراني وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة كما تتابع اجتماع المنامة المرتقب والحراك المتزايد في شرق المتوسط وكلها قضايا ساخنة تزداد سخونة وتعنيها مباشرة وسيكون لها ارتداداتها على مصالحها وعلاقاتها في المنطقة. فما الذي ستفعله في التعامل مع ملفات دائمة السخونة من هذا النوع؟ هل ستختار تركيا مواصلة سياساتها الحالية مهما كان الثمن أم هي ستعود لدبلوماسيتها الكلاسيكية المعتمدة  قبل العام ألفين الانفتاح والتعاون والتنسيق مع الجميع؟

بواسطة/د. سمير صالحة
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.