قراءة في مناظرة إسطنبول الانتخابية

بعد غيابها منذ تسعينيات القرن الماضي، عادت تركيا أمس إلى المناظرات الانتخابية حين التقى المتنافسان الرئيسان لانتخابات الإعادة في إسطنبول، مرشح حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب بن علي يلدريم، ومرشح حزب الشعب الجمهوري وتحالف الأمة أكرم إمام أوغلو.

وقد استمرت المناظرة، التي ظهر فيها المرشحان في برنامج تليفزيوني مشترك أداره الإعلامي إسماعيل كوجوك كايا ونقلته معظم وسائل الإعلام التركية، على مدى نحو ثلاث ساعات متواصلة، وجَّه خلالها مدير الحوار 18 سؤالاً إلى كل من المشتركَيْن، قبل أن يترك لكل منهما كلمة أخيرة في النهاية.

كان التحدي الأبرز في هذه المناظرة هو إجراءها قبل أسبوع واحد تماماً من العملية الانتخابية، بما يعني تَعذُّر تلافي أو إصلاح المرشحَيْن لأي خطأ فادح أو ضربة كبيرة بسبب الوقت الضيق. وكان الهدف الرئيس منها محاولة التأثير على شريحة الناخبِين “المترددِين” لحثِّهم على الذهاب إلى صناديق الاقتراع والتصويت لأحد المرشحَيْن، فضلاً عن محاولة جذب بعض مصوتي الطرف الآخر أو شرائح جديدة دون المخاطرة بخسارة الأنصار الحاليين.

لهذه الأسباب وغيرها، مرَّت المناظرة عادية جدّاً، وفي بعض الأحيان رتيبة، إذ غابت عنها الأسئلة العميقة والمباشرة فضلاً عن المحرجة في الأعمّ الأغلب، وبان المُحاوِر أقلّ من مستوى المناظرة وتاريخيتها، لا سيما حين تَعرَّض لانتقاد المشاركَيْن بسبب قلة الأسئلة المتعلقة بالمشاريع والوعود الانتخابية، وهو ما تجاوب معه ممدِّداً زمن المناظرة ومضيفاً إلى أسئلتها.

يمكن القول إن كوجوك كايا كان عادلاً بشكل عام في تقسيم الوقت وتوجيه الأسئلة للطرفين، لكن الأمر لم يخلُ من أسئلة غير متناظرة (على عكس المتفق عليه) أو تلميحات وإشارات ضمن الأسئلة لصالح إمام أوغلو.

مثل سؤاله يلدريم عن وعوده الانتخابية مقابل سؤاله إمام أوغلو عن إنجازاته خلال 18 يوماً من رئاسته البلدية، أو سؤاله إمام أوغلو عن حادثة المطار التي ادُّعِيَ أنه شتم فيها والي مدينة أردو (وهي فرصة له للرد والتفنيد) بينما سأل يلدريم عن تحليله لأسباب “عدم نجاحه في انتخابات بلدية إزمير 2014 وإسطنبول 2019″، ومثل تخصيصه المرأة في سؤاله إمام أوغلو عن المشاكل الاقتصادية في حين لم يذكرها ليلدريم مثلاً.

فيما يتعلق بالمتناظرَيْن، فقد غلبت عليهما صفاتهما الشخصية، حيث ظهر يلدريم أكثر هدوءاً وبطئاً وثقة في الحديث في مقابل تدفق إمام أوغلو وسرعته وحماسته. كما غاب الهجوم المباشر أو الانتقاد الحاد أو التعرض لشخص الطرف الآخر إلا ما ندر، وهو أمر يمكن أن يكون نتيجة اتفاق مسبق بين الحزبين اللذين رتبا للمناظرة معاً على أي حال.

لكن يمكن القول إن مرشح العدالة والتنمية كان في البداية أكثر حدة من خصمه حين أكثر من ترداد كلمة “كذب” مثلاً في مقابل كلمة “غير صحيح” التي استخدمها الأخير في معرض النفي والتفنيد، كما أن يلدريم قاطع ودخل في حديث بيني 16 مرة في مقابل مرتين أو ثلاثة فقط لإمام أوغلو.

في الشكل، بدت المناظرة ضعيفة من الناحية الفنية، وغلب على المشتركَيْن في بداياتها الاستطراد المبالغ به في الإجابات وعدم استخدام الوقت بالطريقة الأمثل، ما أثر على الإجابات اللاحقة، وهو أمر استدركاه وحسّناه إلى حد ما مع مرور الوقت.

الأسئلة الثلاثة التي يمكن القول إنها محرجة أو مستفزة للخصمَيْن إلى حد ما، وهي أسئلة السوريين في إسطنبول والناخب الكردي فيها، ومكافحة جماعة كولن أو “فيتو”، سجل فيها المتناظران إجابات متقاربة، باستثناء تسجيل إمام أوغلو نقطة نسبية على خصمه بانتقاد سياسة الحكومة في إدارة ملف السوريين، واستدراج خصمه لتكرار الحديث عن “تسريع ترحيل من يخل منهم بالأمن أو يهدد راحة سكان المدينة أو يشترك في أمور غير قانونية”.

اقرأ أيضا

مفاجأة كبيرة في الاستطلاع الأخير حول الانتخابات الرئاسية…

في المقابل يمكن القول إن كل مرشح أحرج خصمه في سؤال واحد تقريباً. فقد ضغط يلدريم على منافسه في موضوع نسخه لأرشيف معلومات البلدية حين انتخابه مفنداً ادعاء أنها نسخة احتياطية للأمان مؤكداً وجود نسختين احتياطيتين في البلدية.

في المقابل، ضغط إمام أوغلو على خصمه في موضوع الإسراف في مصاريف البلدية وفق تقرير هيئة الرقابة المالية موضحاً أن الاقتصاد ومكافحة الفساد عمودان رئيسان في خطته لإدارة البلدية إن فاز.

وفي المجمل، اعتمد يلدريم على ذاكرته وخبرته أكثر وكأنه في مقابلة تلفزيونية عادية، بينما كان إمام أوغلو أكثر استعداداً لمنطق المناظرة وفلسفتها، وهو ما يفسر حضور الصور والجداول والكتيبات ووسائل الإيضاح لديه أكثر من خصمه.

في تقييم النتائج، يمكن رصد ما يلي:

أولاً، لم ترتق المناظرة للمستوى المنتظر والمتوقع منها لكنها أنجزت أمراً مهماً وهو جمع المتنافسين على طاولة واحدة بعد غياب المناظرات عن التقليد السياسي التركي لسنوات طويلة.

ثانياً، لم تسفر المناظرة عن فائز صريح أو خاسر مطلق ولم تنته بالضربة القاضية، حيث غابت عنها الأخطاء الفادحة، والانتقادات الحادة والأسئلة المحرجة والضرب تحت الحزام.

ثالثاً، في ظل ذلك سيختلف تقييم نتائج المناظرة من شخص لآخر حسب كيفية تلقيه وزاوية قراءته لها. لكن يمكن القول إن إمام أوغلو قد سجل نقاطاً اكثر من خصمه وبالتالي تقدم عليه نسبياً.

رابعاً، لكل ما سبق لن يكون للمناظرة تأثيرات كبيرة ومباشرة وإنما بسيطة ونسبية على الناخبين وشريحة المترددين منهم على وجه التحديد؛ خصوصاً وأنها انتخابات إعادة قد حسم معظم الناخبين رأيهم فيها.

ولذلك تحديداً سيكون ما بعد المناظرة أهم منها وأكثر تأثيراً، حيث سيجتهد كلا الفريقين في تسويق تقييمات محددة واقتباسات بعينها من المناظرة لإقناع الناخبين بتفوق مرشحهم، ما يعني أن الأيام السبعة المتبقية ليوم الاقتراع ستكون أكثر سخونة فيما يبدو من سابقيها.

وأخيراً، ورغم أن المناظرة لم ترتق لسقف توقعات المتابعين، إلا أنها مكسب واضح لتركيا، وسيكون لها تأثير جيد لتخفيف حدة الاحتقان في البلاد بشكل عام والحملة الانتخابية على وجه الخصوص. كما أنها قد تكون سابقة يبنى عليها بحيث تعيد للبلاد ثقافة المناظرات في المنافسات الانتخابية القادمة ليس فقط في البلديات ولكن أيضاً في الانتخابات الرئاسية

بواسطة/سعيد الحاج
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.