منذ قراره، قبل أكثر من عامين، إدخال تعديلات جذرية على الدستور التركي، وتغيير شكل النظام من برلماني إلى رئاسي بصلاحيات موسّعة للرئيس، يعاني حزب العدالة والتنمية من انتكاساتٍ انتخابيةٍ وانقسامات داخليةٍ وردود فعل شعبية أفقدته كثيرا من قوته ونفوذه وتماسكه. جديد الضربات التي تلقاها الحزب وأخطرها، منذ تأسيسه قبل 18 عاما، خسارته المدن الكبرى في الانتخابات البلدية في آخر مارس/ آذار الماضي، ثم هزيمة أكبر في إسطنبول الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، التي كانت الضربة القاصمة، بعد اعتراضه على نتائجها، ثم فوز مرشح المعارضة، أكرم إمام أوغلو، مجددا بفارق كبير هذه المرة.
وأخيرا، أعلن نائب رئيس الوزراء التركي السابق، علي باباجان، أنه استقال من حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، بسبب “تباعد في الرؤى حول توجهات الحزب والفجوة العميقة بين المعلن خلال حقبة التأسيس وما هو عليه الوضع اليوم.. تحتاج تركيا إلى رؤية جديدة تماماً لمستقبلها. كثير من زملائي وأنا نشعر بمسؤولية عظيمة وتاريخية بهذا الاتجاه”. هل يكفي ذلك للقول إن تركيا تستعد لحزب سياسي جديد، يخرج من رحم حزب العدالة والتنمية الذي كان قد انشق عن حزب الرفاه الذي أسسه القيادي نجم الدين أربكان في الثمانينيات؟
قيادات ساهمت في مرحلة تأسيس الحزب وانطلاقه وصعوده، مثل الرئيس السابق عبد الله والمالية حتى العام 2015، قبل دخول الحلبة، ولكن لا أحد يعرف شيئا عن المناصرين والمشجعين الذين سيقفون خلفه في المواجهة. والعامل الخارجي الذي يطيب لكثيرين من القيادات المحيطة بأردوغان الإشارة إليه في حديثها عن اصطفافات المتآمرين على تركيا من الخارج. وهناك من الخارج من سيسعى جاهدا إلى التأثير على رسم خريطة التحالفات الحزبية والسياسية في المرحلة المقبلة، ويريد أن يصفي الحسابات مع أردوغان وحزبه، بسبب طريقة تعاملهم مع ملفاتٍ في أكثر من دائرة نفوذ ومصالح تعني تركيا في المنطقة. حتى لا نذهب بعيدا، هناك من يتربص بالسياسة التركية في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، في سورية والعراق وفلسطين والسودان وليبيا، والطاقة الغازية في شرق المتوسط. وفي قضايا ذات أبعاد أمنية وسياسية ودينية واقتصادية، حرّكت أنقرة فيها عش الدبابير، وعليها أن تدفع الثمن، كما تقول قوى كثيرة، تردد أنها تضرّرت نتيجة هذه السياسات.
قد يحل “خريف الغضب” باكرا. قد يحسم ثنائي غول – باباجان أمره، ويبادر إلى إعلان ولادة الحزب الجديد بطابع محافظ معتدل، يحمي هويته المسلمة، ولكن ليس الإسلامية كما يطالب بعضهم في الداخل والخارج. ولن يكون هناك أي حديث عن الإسلام السياسي والربيع العربي وتقديم الشعارات القومية. سيكون الهدف توجيه رسائل تهدئة وهدنة كثيرة، وفتح أبواب الحوار مع الجوارين، العربي والإقليمي، وإبلاغ أوروبا بأن المعايير السياسية والقانونية والاجتماعية التي قبلتها أنقرة في أكثر من اتفاقية وعقد هي ملزمة ولا تراجع عن تطبيقها. يد المصالحة ستكون ممدودة نحو إسرائيل ومصر والخليج، وعواصم غربية كثيرة كما يبدو. ولحلف شمال الأطلسي (الناتو) الأولوية دائما في قرارات تركيا الاستراتيجية، لا سياسة تصعيد وتوتير وشحن وتحد ومواجهة، بل تهدئة وتبريد وتليين وحوار جديد.
قد يكون التحرك الجديد حركة تصحيحية على مستوى الداخل الحزبي في “العدالة والتنمية”، ولكنه حركة تجديد على مستوى تركيا بأكملها، تقلد رئيس الوزراء الأسبق، تورغوت أوزال، في نهج جمع الأقطاب الأربعة، القومية والليبرالية والعلمانية والمسلمة، تحت سقف واحد. وقد يكون القيادي المعارض، أكرم إمام أوغلو، هو من رفع شعار “حزب كل تركيا”، أخيرا، ولكن فرص تطبيقه وإنجازه هي دائما لصالح الأحزاب اليمينية التي تحظى بحصة الثلثين في تقاسم الأصوات والقواعد والمقاعد دائما في الشريحة السياسية والاجتماعية التركية.
هل ينجح أردوغان، وكما تقول أقلام وأصوات كثيرة، في لملمة ما كان هو أيضا بين المتسببين في بعثرته قبل أربع غول، ورئيس الوزراء الأسبق، أحمد داود أوغلو، ووزراء بينهم علي باباجان، ومحمد شيمشاك وحسين شليك وجميل شيشاك وسعد الله أرغين ووجدي غونول، طلب إليها التنحي، والجلوس على كراسي التقاعد، بذريعة أن الحزب يجدّد نفسه باستمرار، ويحتاج فتح الطريق أمام دماء جديدة، ولكن المشكلة أن هذه القاعدة لم تطبق على آخرين، مثل بولنت أرينش وعمر شليك وبن علي يلدريم. لا بل بدأت المشكلة التي تتفاقم يوما بعد آخر تتمحور حول إبعاد عشرات من القيادات التي وقفت إلى جانب أردوغان، في أصعب أيامه الحزبية والسياسية، وها هو يختار نعمان كورتولموش وسليمان صويلو عن يمينه ويساره، وهما اللذان كانا يقودان الحملات الشرسة ضد “العدالة والتنمية”، قبل أن ينضما إلى صفوفه.
هزيمة الحزب الموجعة في إسطنبول، وتراجع أصواته إلى درجة فقدانه الأكثرية المطلقة في البرلمان، وتكبيل نفسه بحزب الحركة القومية (شريكه بالقوة) في إطار “تحالف الجمهور” والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وانحسار السياسة الخارجية للحزب في أكثر من ملف إقليمي ودولي، ذلك كله أخرج المتربصين والغاضبين عن صمتهم باتجاه المجاهرة في الانتقادات، والتحضير لحراك حزبي جديد، ينطلق من رحم حزب العدالة والتنمية. وبذلك يكون شهر العسل في “العدالة والتنمية” على أبواب نهايته وتحالف الجمهور الذي قدّم خدمات كثيرة لحزب العدالة في العامين الأخيرين سيكون بين من سيدفعون الثمن أيضا أمام السيناريوهات السوداوية الكثيرة في علاقات الشريكين.
تتحدّث المصادر الرسمية عن وجود 77 حزبا سياسيا تركيا، 24 منها ظهر في السنوات الخمس الأخيرة. لا وزن شعبيا وسياسيا واجتماعيا لغالبيتها في البلاد، ولكن حزب غول – باباجان سيكون مختلفا عن هذه الحركات السياسية في طروحاته وفرصه وقدراته على تصدر المشهد التركي. غير أنه لن تكون مهمة الأصوات المعارضة سهلة، فليس الرئيس أردوغان لقمة سائغة، وهو ما زال يمسك بكل خيوط اللعبة في الحزب، وبيده أكثر من ورقة يلعبها ضد المعارضين والمتمرّدين. ولكن المشكلة الأهم التي تواجهها هذه الأصوات انقساماتها في ما بينها بين تيارين، يقود أحدهما الرئيس السابق غول ويدير الثاني أحمد داود أوغلو، مع أن فرص غول والفريق المحيط به أكبر وأقوى، بالمقارنة مع إمكانات الأخير. إذا ما حصلت المصالحة والوساطات التي يقوم بها بعضهم من أنصار الطرفين معا، وتوحدت كوادر المعارضة في الحزب خلف اسم غول، فالمعادلات المتوقعة ستتغير تماما، وتنقلب الأمور رأسا على عقب في الحزب، بأكثر من اتجاه، وأمام أكثر من سيناريو واحتمال، تلتقي كلها عند تقاطع خطر تسريبات علبة الباندورا التي سيكون من الصعب إعادة إغلاقها بعد الآن.
وغير منسيٍّ أن علي باباجان هو صاحب الدور الأبرز في رسم سياسات تركيا الاقتصاديةسنوات، عندما غامر وضحّى بعشرات من أعوانه وشركائه في الحزب “قد يحسم ثنائي غول – باباجان أمره، ويبادر إلى إعلان ولادة الحزب الجديد بطابع محافظ معتدل”
منذ عام 2001، وهو القيادي المعروف بحنكته السياسية في التأقلم مع الأجواء والتعاطي مع الأزمات والمواقف الصعبة؟ أم أنه سيترك الأصوات المعارضة تكشف عن قوتها، ثم ينقض عليها بعد مغادرتها الحزب؟ يحتاج أردوغان، من أجل أن يفعل ذلك، الجماهير والقواعد الحزبية، لتكون إلى جانبه، فهل يتمكن من إقناع أنصاره بمنحه الفرصة مجدّدا، وهو الخارج من خسارتين متلاحقتين في انتخابات تركيا وإسطنبول؟ الأمل هو قوت الضعيف، والتحدي سلاح القوي، فأي أسلوب سيلجأ إليه أردوغان وحزبه؟ لم يكشف عن أوراقه بعد، فهل يضحّي بمقعد رئاسة الحزب، لإنقاذ مقعد الرئاسة، كما ينصح بعضهم في صفوف القيادة الحزبية اليوم. هو حتى ولو فعل ذلك، لن يقبل أبدا الدخول في أي نقاش بشأن تغيير شكل النظام الرئاسي الذي بذل جهدا للوصول إليه. إذا ما شعر، مثلا، أن السفينة الحزبية مهدّدة بالغرق، لن يتردد الرئيس أردوغان في دفع البلاد نحو انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، تقطع الطريق على المعارضين في الحزب، لإتمام تحرّكاتهم وإكمال عمليات الحفر في أسس الحزب من الداخل لإسقاطه. وداود أوغلو ممن يدعونه إلى التخلي عن منصب رئيس الحزب، والانصراف إلى موقع رئاسة الدولة، فهل يقتنع الحزب بهذه الفكرة، ويطرح اسم أوغلو نفسه رئيسا للحزب مرة أخرى، لتجاوز المرحلة، وخصوصا أن الرجل لم يعلن القطيعة مع حزبه، وأن قيادات الحزب الجديد لن تفسح له مكانا بينها بسهولة، وهو الذي كان قد تخلى عن غول قبل ثلاث سنوات، عندما اختار الوقوف إلى جانب أردوغان يومها؟
السياسة هي فن صناعة الحلول أيضا، والحل الذي تقدمه السياسة في حالة حزب العدالة والتنمية هو التضحية بالصعب، حتى لا تواجه الأصعب، فما الذي سيختاره أردوغان للخروج من الورطة؟
.
بواسطة/ د. سمير صالحة