إنه صباح السبت 16 تموز/يوليو 2016.. الاستديو جاهز، المحاوِرة اعتلت كرسيّها، المخرج وفريق العمل كلٌّ في مكانه، ضيف الحلقة وصل.
تمام الساعة الحادية عشرة بتوقيت العاصمة اللبنانية بيروت، انطلقت شارة البرنامج الحواري السياسي اليوميّ، ليبدأ البث المباشر على شاشة القناة الفضائية التي كنتُ أعمل فيها وقتئذٍ.
بشكلٍ مهنيّ قامت المذيعة بتحديث الموضوع الذي كانت قد حضّرته لحلقتها، وافتتحت كلامها بمقدّمةٍ عن الحدث الأبرز الذي سبقها بساعات، ثم راحت تطرح أسئلتها على الضيف عن رأيه في ما جرى الليلة الماضية والانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا، ليُجيبها بتعجّب: عن أي انقلاب تتحدثين؟
نعم يا سادة، الانقلاب في تركيا مرّ سريعاً، سريعاً جداً، لدرجة أن من استسلم للنوم باكراً ليلة الجمعة 15 تموز 2016، وغادر منزله صباحاً دون الاطلاع على آخر الأخبار، لم يعرف ما حدث في غفلةٍ منه.
لربما كان هذا الموقف من أكثر المواقف التي تختصر الحدث، وتوجّه صفعةً بوجهِ الانقلابيين الذين لم يحظوا بالوقت اللازم ليتركوا بَصمتَهم، فما بالكم بأن يخطفوا البلد في انقلابٍ عسكريّ نظّمه فصيلٌ منشقٌّ، بعد أن فشل معارضو الرئيس رجب طيب أردوغان في إزاحته بواسطة صناديق الاقتراع.
المتابع لـ”ليلة القبض على الانقلابيين” التركية، ومحتوى خطاب البث المباشر والتغطيات الخاصة عبر مختلف الشاشات، يدرك بعمق أن هناك تفاوتاً مشهوداً في نضج مرجعيات هذه القنوات. فالقنوات المصرية مثلاً سارعت إلى الشماتة والاحتفال، منذ اللحظات الأولى لانطلاق الانقلاب، وبلغت ذروة السعادة عندما استولى الانقلابيون على القناة الرسمية التركية وأجبروا المذيعة “تيجان كاراش” على قراءة بيان يعلن “السيطرة على مقاليد الحكم وفرض حالة الطوارئ”.
أما القنوات الرسمية السورية فكانت تعيش في عالم ورديّ، حيث سارعت وأيضاً منذ بداية الانقلاب إلى التحدث بلغة النصر على العدوّ الطاغية، بلغة ربما لم يتوجهوا يوماً بها إلى الاحتلال الإسرائيلي! بل وذهبت هذه الشاشات إلى نعت الرئيس أردوغان بالـ”فارّ الذي يختبئ في أحد الأقبية أو الكهوف، والذي سرعان ما سيُعثر عليه ليقتصّوا منه”.
على المقلب الآخر كانت الدول الأوروبية وقنواتها تتريّث في التعليق على المجريات، بانتظار ما ستؤول إليه الأمور، واكتفَتْ بنقل الأحداث دون أخذ طرف بحجةِ المهنية، ريثما تتضح الصورة ويُبنى على الشيء مقتضاه.
لكن أردوغان فاجأ الجميع وتمكن من مخاطبة شعبه في اتصال فيديو أجراه مع محطة “سي إن إن تورك” عبر تطبيق “فيس تايم” على هاتفه الجوال، ودعا أنصاره إلى النزول للشوارع من على متن طائرة متوجهة إلى إسطنبول.
ثم بدأت الأحداث تنقلب لدى وصوله إلى مطار أتاتورك، حيث لبّى الملايين نداءه لحماية بلدهم من الانزلاق إلى الحرب، الأمر الذي لم يحسب حسابه هؤلاء الانقلابيون الذين تحدثت التحقيقات عن تلقّيهم الدعم من الخارج (السعودية، الإمارات، الولايات المتحدة الأمريكية)، في سياق التدخلات الخارجية المستميتة للتخلص من حزب العدالة الحاكم وممثليه في السلطة وعلى رأسهم الرئيس إردوغان، الذي أثبت أن مشروعه لبلاده عصيٌّ على أن تسقطه مؤامرات الغرب والأشقاء على حدٍّ سواء.
وبعد 5 ساعات من تسارع الأحداث التي انتهت بإفشال الانقلاب، بعيداً في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية، استيقظت الولايات المتحدة من نومها “الديبلوماسي”، رغم أن التوقيت عندها كان نهاراً أثناء الأحداث، وأعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما دعمه للسلطة في أنقرة في مواجهة الانقلابيين. بيانٌ وإن بدا مهنياً ودبلوماسياً، إلا أن ساعات الصمت التي سبقته كانت أبلغ منه وأصدق إنباءً!