علينا أن نشكر أمريكا. لم تبع لنا باتريوت فاشترينا إس-400. لم تعطنا طائرات إف-35 فتخلصنا من التبعية. وزاد تصميمنا وسرعت. لقد فسدت مسلماتهم واختلط الأمر عليهم. وانتهت الوصاية والذل والدولة الضعيفة!
لقد بدأت عملية تسليم صواريخ إس-400 إلى تركيا في الوقت الذي ترددت فيه التصريحات المهددة والابتزازية. غير أن الإدارة الأمريكية وجدت صعوبة في اتخاذ موقف محدد. فقال البنتاغون شيئا مختلفا عما صرح به البيت الأبيض عما قاله لوبي إسرائيل.
وفي نهاية المطاف استطاعت واشنطن اتخاذ قرارا في مصلحتنا: إخراج تركيا من برنامج طائرات إف-35. فتركيا تكثف استثماراتها الذاتية في مجال الصناعة الدفاعية، كما أنها تحاول أن تتخلص من التبعية المستمرة منذ عشرات السنين، وهكذا استطاعت التخلص من التبعية بسبب طائرات إف-35.
تركيا الرابح الأكبر في صفقة إس-400 وقرار إف-35
إن قرار صفقة صواريخ إس-400 هدم – في الواقع – مخططات الولايات المتحدة الرامية لدفع تركيا للتخلي عن خطتها الخاصة بمنظومة الدفاع الجوي، كما أفشل مساعيها لفرض تبعية جديدة على أنقرة. أي أن تركيا كانت هي الرابحة من القرارين؛ إذ بدا أمامها مجال أوسع وأكثر حرية في مجالات الطائرات القتالية ومنظومات الصواريخ.
لا نتناول في مقالنا اليوم مساعي تركيا في المجال الدفاعي، بل نتحدث عن الارتباك الذي أصاب السياسات الأمريكية تجاه تركيا والشرق الأوسط والمناطق المركزية حول العالم وتصرفاتها غير المتزنة وسياساتها غير المستقرة التي ستضرها بشدة وجوانب ضعفها التي تتضمنها هذه الحالة غير المستقرة.
أكثر دول العالم عزلة وانعداما للثقة
انهيار أحلامها بالنظام العالمي
لقد حاولت الولايات المتحدة تأسيس نظام عالمي جديد عقب نهاية الحرب الباردة، لكنها خسرت قوتها هذه عم 1996 لتفوت هذه الفرصة. وهي تخسر المزيد من الأرض منذ ذلك التاريخ. واليوم أصبحت أكثر دول العالم عزلة وانعداما للثقة.
وهذا ما يعني الانهيار الكامل لنظريات وممارسات السيادة العالمية أحادية الجانب للتحالف الأطلسي بعد مئات السنين، فلم يعد لقوى هذا التحالف أي طموحات كهذه في الوقت الراهن. ذلك أنه للمرة الأولى منذ قرون تصعد قوى جديدة واقعية للغاية، ليخسر الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة قوته السلطوية العالمية للأبد.
أمريكا تعاني من الارتباك ذاته كذلك مع روسيا والصين وألمانيا
إن ارتباك الولايات المتحدة أمام الموقف القوي والعازم لتركيا يظهر في كل المجالات. كما نراه في الحروب التجارية التي تخوضها مع الصين وكذلك تصفيات الحسابات الجيوسياسية.
نرى هذا الارتباك في الصراعات الأمنية التي تخوضها مع روسيا وقرارات الحصار وأزمات الصواريخ وفي كل مكان من أوروبا الشرقية إلى الشرق الأوسط وأفريقيا.
نراه كذلك في الخلافات السياسية والاقتصادية التي تخوضها مع الاتحاد الأوروبي بزعامة ألمانيا. كما نراه مؤخرا في الحرب النفسية التي تخوضها مع تركيا استنادا إلى العقوبات والتهديدات.
لقد انهارت مصداقيتها وقوتها الرادعة
الإنسانية ستلقنها الدرس
لقد بدأ أخطر تهديد لدور القوة العظمى الذي تتظاهر به الولايات المتحدة يظهر داخلها. فحالة الارتباك الداخلي الذي تعيشها حولت أكبر تهديد بالنسبة لها إلى تهديد داخلي.
لقد انهار تماما الافتراض المسبق الذي يقول “الولايات المتحدة تقوم بكل شيء بتخطيط مسبق”، لتتحول الولايات المتحدة إلى دولة تصدر قرارات لحظية ثم ترجع عنها بعد مرور يوم واحد، وتظهر بمواقف متعارضة، وتكذب نفسها دائما وتتذبذب في تصريحاتها.
إن الإنسانية وكل الدول والشعوب المنزعجة من تدخلاتها على المستوى الدولي ستلقنها الدرس لو استمرت على هذه الشاكلة، فنحن نرى أمارات ذلك حاليا.
لقد اختفت القوة الدبلوماسية الأمريكية، كما أصيبت مصداقيتها ومكانتها وقوتها الرادعة بجراح غائرة، ولم يعد لها أي قوة رادعة على المستوى العالمي باستثناء القوة العسكرية الغاشمة.
ليست بلا منافس في أي مجال
كل الدول تبتعد عنها
لم تعد الولايات المتحدة كذلك بلا منافس في مجال الريادة التكنولوجية. فالتغير الذي تشهده خريطة القوى والتكنولوجيا ورس المال والموارد البشرية كل ذلك لا يصب في مصلحة واشنطن أبدا.
لا توجد أي دولة متقدمة أو متوسطة التقدم تنظر إلى مستقبل مشترك مع الولايات المتحدة التي لم يعد التقرب إليها ضمانة لمستقبل باهر.
بل على العكس تماما؛ إذ أن الدول أصبحت تعلم أنها ستكون في راحة وأمان كلما ابتعدت عنها، ولهذا فهي تتبع طريقا وفقا لهذا. ولا يقتصر هذا الموقف على البلدان التي تتعامل بحذر مع الولايات المتحدة. بل حتى أن أقرب الدول إليها بدأت تتبنى هذا الموقف. فدول مثل بريطانيا وإسرائيل وكوريا الجنوبية واليابان بدأت تبحث عن مستقبل مستقل عن واشنطن وتحسب حسابات دقيقة للغاية من أجل الابتعاد عنها في شتى المجالات.
الشراكة مع الإرهاب هي أكثر المجالات التي تنجح فيها واشنطن
لقد خسرت الدول ولجأت إلى التنظيمات
إن أكثر المجالات التي تنجح فيها الولايات المتحدة هي إقامة الشركات مع التنظيمات الإرهابية. فعندما عجزت عن التعاون مع الدول، بدأت تتعاون مع كل التنظيمات الإرهابية حول العالم، فعقل الدولة الأمريكية بدأ يركز على هذا المجال، وأصبحت تستخدم الإرهاب كسلاح ضد الدول التي ابتعدت عنها. وهو ما يعتبر إعلانا لإفلاس العقلية الأمريكية.
لقد دخلت الولايات المتحدة في حروب تجارية مع نصف دول العالم وخاضت ضد الغالبية العظمى صراعات أمنية، لكنها خسرت داخلها وحدتها. وفي الوقت الذي كان العالم كله معها في حرب الخليج، اليوم ليس هناك أي دولة تتحرك بالتعاون معها سوى التنظيمات الإرهابية.
تعاني واشنطن اليوم من صراع مع الغالبية العظمى من دول العالم، هذا فضلا عن أنها غارقة في الداخل في صراعات على السلطة. ومن هذا المنطلق ستتحول الولايات المتحدة إلى دولة تعاني المزيد من المشاكل بتأثير الموقف الحازم الذي تتخذه دول العالم.
إن كل الدول تقريبا تتبنى حالة من الحذر إزاء الولايات المتحدة. وحتى أزمة صواريخ إس-400 كانت كافية لهدم كل مسلّماتها.
تركيا تؤسس عقلية قوية
وتتخذ موقفا حازما وقويا
فهي لا تسير، بل تركض!
وماذا عن موقف تركيا؟ التصميم… إنها الكلمة الأهم.
إن تركيا تظهر تصميما عاليا وقدرة فائقة على قراءة المستقبل بينما تتخذ المواقف وتحسب حسابات تبدل موازين القوى العالمية، وكذلك في الخطوات التي تتخذها وستتخذها وعقلية الدولة والهجمات وعمليات الابتزاز الموجهة لها والتطورات التي تشهدها منطقتها وعملية تحويل نظامها السياسي الداخلي.
إنها لا تتراجع في مواجهة الضغوط، بل ترى نقاط ضعف البلدان والقوى وتتابع توترات القوى العالمية وتلاحظ الفراغات وترسم ملامح مجالاها للتحرك وفقا لذلك.
كما أنها تظهر بمظهر قوى على مستوى المساعي الاقتصادية والسياسة الخارجية والشؤون الأمنية والدفاعية. وهي – في الوقت نفسه – لا تلين أو تضعف أمام الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.
لم نتراجع للوراء قط
وجهوا الضربة، فأصبحنا أقوى
إن تركيا تحسب جيدا الخطوات التي ستقدم عليها في علاقتها مع القوى الصاعدة في آسيا، كما تحسن قراءة خريطة اكتساب بيئة اقتصادية وسياسية جديدة. وتتمتع تركيا بموقف حازم للتخلص من علاقة التبعية أحادية الجانب مع الغرب؛ إذ إنها تتحرك وفق خارطة طريقها الخاصة.
إن تركيا تتحرك وفق حقائقها الخاصة لمواجهة الضغوط التي يمارسوها علينا في كل مكان من شمال سوريا إلى شرق المتوسط وبحر إيجة. وعلى سبيل المثال لم تتراجع أنقرة قيد أنملة بالرغم من الكثير من الضغوط وسياسات الردع في شرق المتوسط، بل حتى إنها بدأت تتحدى تلك القوى. وهو ما يجعلها تمثل نموذجا يحتذى به بالدور الذي تلعبه.
“القوى الاحتياطية” تنزل للساحة بعد “غولن”
ستنهار كذلك هذه المحاولة الرامية لتضليل العقول وإصابتنا بالضعف الداخلي
إن تركيا قادرة خلال الفترة المقبلة على تحقيق نهضة قوية خلال الفترة المقبلة في المجالين الاقتصادي والدفاعي؛ إذ بدأنا نرى أمارات على ذلك. وربما نشهد حقبة صعود استثنائية في هذا المجالين.
وعلينا أن نضيف إلى ذلك العمليات السياسية الداخلية، كما ينبغي لنا التركيز أكثر على هذا المجال. ذلك أنهم يحاولون التدخل في شؤون تركيا من الداخل بعدما فشلوا في الحصول على ما يريدون عبر الضغوط الخارجية.
إنهم يسعون للاستعانة هذه المرة بـ”القوى الاحتياطية” بعد فشل تنظيم غولن الإرهابي وتضليل العقلية السياسية القوية وإضعاف الموقف الحازم ونشر الضعف الداخلي من أجل إيقاف تقدم تركيا. فهناك رغبة جامحة لتضليل تركيا في الداخل بعدما رسمت لنفسها صورة قوية في الخارج.
ولهذا علينا الانتباه إلى تلك القوى الاحتياطية التي تلت تنظيم غولن الإرهابي، وذلك إلى جانب موقفنا القوي على المستويين الاقتصادي والدفاعي. لكننا على ثقة من أن بلدنا ستتخطى هذا أيضا.
لقد بطل هذا السحر منذ وقت طويل
لم يعد هناك مكان للوصاية والذل والدولة الضعيفة
وعليه فإن تركيا قد أنهت منذ وقت طويل حقبة التبعية التي دامت لقرن من الزمان. فإذا كانت ضغوط الولايات المتحدة ومحاولاتها الابتزازية لا تجدي نفعا، فمن يستطيع إيقاف تركيا؟.. ولهذا أرى أن أولئك “المحتلين الداخليين” يبذلون مجهودهم هباء…
وإن الأسر والوصاية والذل ونموذج الدولة الضعيفة والفكر الذي يقول “الولايات المتحدة قادرة على أن تجعل تركيا تنفذ ما تريد” وآمال تغيير بعض الأمور في الداخل من خلال قوة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي غير موجودة سوى في أذهان بعض الأوساط.
لقد بطل سحر الولايات المتحدة وانهار كذلك إيمان بعض الأوساط داخل تركيا في الولايات المتحدة وأوروبا والغرب عموما. فهم يواصلون الطريق فقط من خلال الإيمان بصورة لا حياة فيها. لكن تركيا نجحت منذ وقت طويل في تخطي هذا الخط.
فلماذا علينا توجيه الشكر لواشنطن؟
علينا شكر الولايات المتحدة، فلم تبعنا منظومة بتريوت فاشترينا صواريخ إس-400، فاعترضت على صفقة إس-400، ومن ثم خلصتنا من تبعية برنامج طائرات إف-35. مارست ضغوطا في شرق المتوسط، فأيقظتنا. وأما عقوباتها الجديدة فستمنح تركيا مزيدا من القوى؛ إذ إن كل خطوة جديدة تخطوها وكل ضغط تمارسه سيرفع من مستوى كفاحنا وسرعتنا من أجل التخلص من تبعيتها.
.
بواسطة/إبراهيم قراغول
شكرا لأنك أعطيتنا أملا في دولة تركيا العظيمة
ربنا يحفظها وينصرها