أوروبا في مصيدة شرق المتوسط

قرّر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي التصعيد السياسي ضد تركيا، عبر توجيه إنذار مفتوح لها بضرورة تبديل سياستها في شرق المتوسط، وإخلاء مناطق نفوذها المائية، والتراجع عن إرسال مزيد من سفن التنقيب عن الطاقة إلى دائرة النفوذ الاستراتيجي الأوروبي الجديد.

بروكسل الأوروبية تهدد أنقرة بورقة إنهاء حلم العضوية في الاتحاد، إذا لم تحترم حقوق الشريك القبرصي اليوناني التي تبحث أنقرة عن الغاز أمام سواحله، والذي يحظى بالحماية والرعاية الأوروبية منذ عام 2004. السواحل التي يجري الحديث عنها أوروبيا هنا هي سواحل قبرص التركية الجمهورية التي أعلنت انفصالها عام 1983 عن الجنوب، من دون أي اعتراف دولي، والتي ما زالت تعيش على حدود “الخط الأخضر” الأممي منذ عام 1974، والتي سقطت في خدعة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كوفي أنان، قبل 17 عاما، المشروع الذي دعمته أوروبا باتجاه الحل الشامل في الجزيرة، ولكنه اكتفى بإنقاذ القبارصة اليونان، وإعطائهم ما يريدون على حساب أتراك الجزيرة.

الحلم الفرنسي هو بالعودة إلى المنطقة من نافذة البحرالمتوسط الغازية، بعدما غادرتها عام 1946 من البوابتين، اللبنانية والسورية. هي أقنعت المجموعة الأوروبية بضرورة مواجهة النفوذين، الروسي والأميركي، هناك كقوة ثالثة، لم يعد لها أمكنة كثيرة تتحرّك فيها. مهد المطبلون والمزمرون للتصعيد الأوروبي ضد تركيا لذلك، عبر عقود وتفاهمات، بوصفها دولا متشاطئة، تهدف لترسيم حدودهم المائية، مثل إسرائيل ومصر واليونان وقبرص الجنوبية، وسط تجاهل كامل لخصوصية المنطقة القانونية والجغرافية والسياسية، وعلى حساب الأطراف الأخرى، مثل تركيا وسورية وقطاع غزة، وكأن الجميع هناك لا يجلس فوق بركانٍ جاهز للانفجار في أية لحظة.

تعمل قبرص اليونانية، منذ العام 2002، على إغراء الشركات الأوروبية بعروض التنقيب

“سقطت أوروبا في مصيدة القبارصة اليونان الذين تعهدوا بتذويب أتراك الجزيرة خلال سنوات”

عن الطاقة أمام سواحلها واستخراجها وبيعها. هدفها كان جر الاتحاد الأوروبي لقبولها عضوا كاملا في إطار الخدمات والمصالح المتبادلة، ومحاصرة أنقرة في شرق المتوسط وتضييق الخناق عليها.
أوروبا التي تهدّد تركيا اليوم في شرق المتوسط هي نفسها أوروبا التي قبلت القبارصة اليونان شريكا على حساب الأتراك في الجنوب، مخلةً بكل التوازنات والاتفاقيات والقرارات الأممية والدولية بشأن الجزيرة. هو الغاز لإخراجه من الأسفل، لا بد من أن يتحمّل الحضور بعض التبعات والروائح الكريهة.

جاء التحرّك التركي المتأخر جدا صاعقا ومباغتا أمام هول المشهد: عقود واتفاقيات تعاون بين أنقرة وقبرصالشمالية، للتنقيب عن الغاز، واستخراجه في منطقة السواحل الشمالية للجزيرة، إرسال ثلاث سفن مسح وتنقيب عن الغاز في منطقة الجرف المائي التركي، وتوفير الحماية العسكرية الضرورية لها، ورفض أية تحرّكات إقليمية في المنطقة الواقعة داخل حدود تركيا، أو حدود حليفها القبرصي المائية، لا تأخذ بالاعتبار خصوصية شرق المتوسط، وتتجاهل ضرورة وجود الأطراف العشرة المعنية أمام طاولة حوار حقيقي وشامل يراعي مصالح الجميع.

اقرأ أيضا

الصبر مفتاح الفرج

كان آخر ما قاله وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، “سفينة تركية رابعة في طريقها إلى المكان”. ومن يوجه الرسائل إلى أوروبا اليوم من العاصمة التركية يقول “سنواصل عمليات التنقيب عن الطاقة في مناطق جرفنا القاري، وأمام سواحل قبرص الشمالية، حماية لحقوقنا في شرق المتوسط. اعتمدت أوروبا على سياسة الكيل بمكيالين معنا، وعليها الالتزام بالوعود التي قدمتها لتركيا”. ليس الرئيس رجب طيب أردوغان من يتحدث هذه المرة، بل زعيم المعارضة اليساري العلماني، كمال كليشدار أوغلو. وبذلك أوروبا مشكورة على توحيد الصفوف ورصها في الداخل التركي.

هل تفجر تركيا ملف اللجوء مرة أخرى في وجه أوروبا، انتقاما من قرارات بروكسل؟ هذا هو أكثر ما يقلقهم اليوم بين الردود التركية، ولكن أنقرة قد تلعب أوراقا استراتيجية أخرى، أنقرة التي حسّنت من علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، في إطار خطط نقل الطاقة بين الشرق والغرب، أمام امتحان التدخل والعرقلة الأوروبية هذه المشاريع. ستكون مهمة الصواريخ الروسية حماية مصالح تركيا في شرق المتوسط طبعا، ولكن المفاجأة التي قد تخرج من تحت العباءة قد تكون أكبر وأهم.

ستتراجع تركيا عن الخطأ الذي ارتكبته قبل عقدين، عنما وثقت بأوروبا وتعهداتها بتسويةسياسية شاملة في قبرص تنهي التوتر وتفتح الأبواب أمام الجميع داخل الاتحاد الأوروبي. وبين الاحتمالات خطة العودة اإلى سيناريو الاستفتاء الشعبي في قبرص الشمالية على الانضمام السياسي والدستوري إلى الجمهورية التركية، وعندها ستكون المواجهة التركية الأوروبية علنية ومباشرة، إذا ما أصر الجزء اليوناني مستقويا بأوروبا على تدمير البنية السياسية والاجتماعية والعرقية والدينية لشمال الجزيرة.

هناك أيضا حقيقة أن بعضهم في بروكسل يتناسى أن تركيا ما زالت واحدة من الدول الضامنة الثلاث في قبرص، حسب اتفاقيات لندن وزيوريخ عام 1959، وأن القوات التركية دخلت قبرص التركية، بناء على هذه الاتفاقيات، لمنع مخطط إلحاق الجزيرة بأكملها بالسيادة اليونانية، وأن قرار قبول قبرص اليونانية شريكا في الاتحاد الأوروبي قبل 17 عاما لا يلزم أنقرة وشريكها القبرصي التركي، لأنه يتعارض مع التعهدات والاتفاقيات والضمانات المقدمة بهذا الخصوص.

تقول أنقرة إن هدف خطة قبول قبرص اليونانية شريكا في الاتحاد كان فتح الطريق أمام التسويات الكبرى في شرق المتوسط، ولكن أوروبا فهمت المسألة أنها باتت تمتلك حق التمدد والانتشار وفرض القرارات على دول المنطقة ومصالحها ونفوذها في منطقةٍ تبعد عن باريس آلاف الكيلومترات. من حق من يحارب مصالح أنقرة في السودان والصومال وتونس وليبيا أن يحلم بمواجهة عسكرية تقع بين تركيا وأوروبا عبر تشجيعه على حربٍ من هذا النوع. ولكنه هو أيضا لن يسلم من ارتدادات الكارثة، لأنها ستتحول سريعا إلى مواجهة إقليمية، تعيد رسم الخرائط والمعادلات لمن يبقى على قيد الحياة. أوروبا هي أول من سيتراجع عن مغامرة كارثية من هذا النوع، وأصوات المجموعة منقسمة على نفسها، والدليل هذا القرار الأوروبي الهذيل الذي خدم وحدة الصف الداخلي التركي، قبل أن يعطي بروكسل ما تريد.

عرقلت سنوات القطيعة التركية الإسرائيلية الطويلة انطلاقة أنقرة في أكثر من مكان، وشجعت بعضهم على الهرولة نحو تل أبيب، لعرض الخدمات ومحاصرة تركيا أكثر فأكثر، وملف شرق المتوسط من أهم هذه العقبات في طريق الأتراك اليوم الواجب إزالتها. وتضع مراكز القرار التركي أمام الطاولة خياراتٍ أخرى قد تغضب من راهن على إسرائيل في السنوات الأخيرة. التقارب التركي الإسرائيلي في شرق المتوسط يحتاجه كلا الطرفين، بسبب ارتداداته السلبية الكثيرة على مصالحهما الإقليمية، وكون عملية إنجازه ستعيد فتح أبواب التعاون والتنسيق، وتختصر مسافات الربح الاقتصادي والاستراتيجي في ملفاتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ واقتصادية ثنائية وإقليمية كثيرة.

سقطت أوروبا في مصيدة القبارصة اليونان الذين تعهدوا بتذويب أتراك الجزيرة خلال سنوات، وإقناعهم بالإغراءات المادية والسياسية والاقتصادية، فورّطوا الأوروبيين، وورّطوا أنفسهم في مأزق يريدون تجاوزه. تدمّر أوروبا سياستها الشرق أوسطية بقرار ورغبة قبرصية يونانية، فهل يسمح عقلاؤها بإعلان الحرب على أنقرة في منطقةٍ باتت خارج نفوذهم الاستعماري منذ عقود؟ نصيحة قد تساعدك في أن تعيش حياة سعيدة من دون منغصات: لا تتناول العشاء متأخرا، وتبالغ في الثقة بجهازك الهضمي على طحن كل شيء.

بواسطة/ د. سمير صالحة
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.