تعتبر أحداث 15 تموز أحداثا رائعة أنهت كل الجدالات وكشفت النقاب عن الكلام والمبادئ المؤسِسة باسم هذا الشعب أمام العالم كله. وربما تكون أعين الناس، التي ربما لم تكن قد فتحت أمام العديد من الأحداث المحذرة، قد فتحت هذه المرة عن آخرها أمام الحقيقة العارية التي أظهرتها الأحداث التي وقعت تلك الليلة. وما كان لعاقل صاحب ضمير حي أن يقول كلمة بعد الكلام التي قالته ليلة 15 تموز.
لقد كانت ليلة 15 تموز ميثاقا برهن على أن الشعب التركي يستحق – بلا شك – دولته واستقلاله وديمقراطية، تلك الديمقراطية التي هي، حتى في معظم البلدان الغربية، نظام لم يأت بالطرق الديمقراطية، بل نظام فرض على الشعوب بطريقة ما إما نتيجة الحروب أو بإرادة أحادية الجانب من الحكومات القوية. ولم يكن الانتقال إلى الديمقراطية في تركيا أيضا خيارا اختاره الشعب. غير أن تركيا استطاعت عقب أحداث 15 تموز أن تقدم نموذجا استثنائيا في تاريخ الديمقراطية العالمي يثبت أن الشعب نفسه يريد الديمقراطية ويدفع من أجلها الثمن غاليا.
ولقد كانت 15 تموز – في الوقت نفسه – أحداثا أنهت العديد من النقاشات الدائرة حول تنظيم غولن الإرهابي والخيانة وعمليات التغلغل في جسد الدولة باستغلال الثغرات القانونية، كما سلّطت الضوء على حقائق هذه المسألة دون السماح لأي فرصة للجدال حولها. وما كان لأحد أن يحاول مواصلة النقاش بعد هذه الساعة إلا من كان جزءا من محاولة انقلاب 15 تموز، فهؤلاء وحسب كان بإمكانهم التشويش على وضوح هذا الأمر ونشر الوساوس بين العقول المتفتحة.
غير أن زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو بدأ فعل هذه الأمر بالتحديد منذ بداية الأحداث، فهو دائما ما ردد ادعاءين يبطل كل واحد منها الآخر عقب محاولة الانقلاب الفاشلة مباشرة دون حتى أن يهتم بالتعارض الصارخ بينهما. فهو دائما ما كان يقول إن محاولة الانقلاب سيناريو مدبر، كما تساءل في أكثر من مناسبة عن “الذراع السياسي” خلال الانقلاب، دون أن يهمل – بطبيعة الحال – أن يضيف أن هذا الذراع ينتمي لحزب العدالة والتنمية.
لقد قلنا منذ البداية إن حزب العدالة والتنمية لم يفعل شيئا منذ توليه السلطة سوى عدم المساس منذ فترة طويلة بالسياسة التي كانت قد بدأت في عهد الحكومات السابقة ضد كيان تنظيم غولن الإرهابي وكانت مستمرة بشكل فعال. واعتبارا من أحداث 7 شباط 2012 و15-25 كانون الأول 2013، التي برهنت على أن ذلك التنظيم تحول إلى شبكة إجرامية، أطلقت حكومة العدالة والتنمية عملية مكافحة صريحة ضد التنظيم. لكن ثمة حقيقة لا جدال فيها الآن، ألا وهي أن كيليجدار أوغلو وإدارة حزبه، التي اتهمت حزب العدالة والتنمية بدعم كوادر غولن، تعاونت مع ذلك التنظيم ضد حزب العدالة والتنمية في لحظة ما في هاتين الواقعتين.
وفي الوقت الذي تقارب فيه حزب العدالة والتنمية مع ذلك الكيان قبل أن تثبت علاقته بالأعمال الإرهابية، فإن كيليجدار أوغلو وحزب الشعب الجمهوري تعاونا وتحالفا معه بعدما كشف صراحة أنه تنظيم إرهابي انقلابي. أي أن ما فعله كيليجدار أوغلو كان التعاون مع ذلك التنظيم عن قصد وهو يعلم علم يقين أنه تنظيم انقلابي. وهو ما يجعله هو نفسه “الذراع السياسي” الذي يبحث عنه لتحميله مسؤولية محاولة الانقلاب.
وبما أننا لن نستطيع أن نقول – على أي حال – إنه يبحث عن نفسه دون أن يدري، فإن الشيء الوحيد الذي يفعله الحزب بتكراره عبارة “الذارع السياسي” كثيرا هو التستر على فعلته.
وبالمناسبة فهذا الرجل لا يتورع عن توجيه التحية إلى إخوان الانقلاب في مصر وسوريا في الذكرى الثالثة لأحداث 15 تموز، وهو الانقلاب الذي يمثل هو بالفعل ذراعه السياسي. فالشيء الذي لا يمكن أن يفعله شخص لديه القليل من الوعي الديمقراطي والحساسية إزاء حقوق الإنسان، نراه يفعله شخص بصفته رئيس حزب ديمقراطي اجتماعي.
ينادي كيليجدار أوغلو بضرورة “التصالح مع الطاغية السيسي” الذي استولى على السلطة بانقلاب مشين وقتل 3 آلاف مدني أعزل احتجوا على انقلابه في يوم واحد في مجزرة جماعية، ثم حول مصر إلى سجن كبير، ليموت الناس في السجون تحت تأثير التعذيب الذي يتعرضون له.
كما يقول إن “علينا التخلي عن علاقتنا الأخوية مع جماعة الإخوان المسلمين” التي يعاني كل أعضائها اليوم الأمرّين إما في المنفى أو داخل السجون تحت تأثير التعذيب. كما يقول إن “علينا التفاوض المباشر مع مجرم الإنسانية بشار الأسد” الذي قتل من شعبه مليون شخص دون أن تهتز له شعرة.
فماذا علينا أن نقول للرد على هذه العروض التي يقدمها السيد كيليجدار أوغلو الذي لم تفتح 15 تموز عينيه؟ فليزرقه الله ما يستحق.
ويبدو أن قلب كيليجدار أوغلو الذي ينعت أردوغان ليل نهار بـ”الدكتاتور” يسكنه الكثير من الطغاة! ولا يمكن أن نفهم شيئا من هذه العروض سوى أن ذلك السياسي الذي يستطيع الحديث اليوم عن التصالح مع السيسي وبشار يرى أنه من الممكن أن يكون هناك ديكتاتورا مشابها لهما في تركيا. وأما شكواه من أردوغان فليست بسبب استبداده أو اضطهاده، بل – في الغالب – لأنه لا يتولى منصبه. وهكذا يكون كيليجدار أوغلو يعدنا جميعا بأنه لو صار مكان أردوغان، لا قدر الله، فإنه سيكون نسخة جديدة من السيسي وبشار.
هذا فضلا عن أننا لم نسمع حتى الآن كيليجدار أوغلو ينبس ببنت شفة بشأن الذين قضوا نحبهم تحت التعذيب في السجون المصرية، كما لم نسمع له تصريحا عن إعدام الشباب الأبرياء بمحاكمات تعسفية أو مئات الأشخاص الذين ينظرون حاليا تنفيذ حكم الإعدام.
وإن الرئيس الوحيد المنتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر الطويل سقط فاقدا للوعي بعد إصابته بأزمة قلبية في قاعة المحكمة بعد سجنه لست سنوات في حبس انفرادي وحرمانه من التواصل مع أحد أو زيارة أسرته ومحاميه، بل وحرمانه من أي علاج طبي، ليسلم روحه إلى بارئها بعد أن تُرك لنصف ساعة كاملة دون أي تدخل طبي. ثم نقل جثمانه في ظلمة الليل دون أي تشريح أو إعداد تقرير طبي حول سبب الوفاة، وكأنهم يسرقون الجثمان، ليدفنوه خلسة. فلم نسمع كيليجدار أوغلو يقول شيئا عن كل ذلك، هذا في الوقت الذي كان من المفترض أن يثور زعيم أكبر حزب ديمقراطي اجتماعي في تركيا أمام واقعة كهذه.
ويا ليته كان قد ذكر هذا الأمر بذكره مصر في ظل انقلابها الناجح (النسخة المصرية من 15 تموز) في يوم أحيينا فيه الذكرى الثالثة لأحداث تحولت خلالها الديمقراطية والإرادة الشعبية إلى ملحمة تاريخية خالدة.
بواسطة/ ياسين اكتاي