لا يتورّع السيد كمال كيليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، أن يظهر في كل مناسبة كيف سيدير تركيا، لو -لا قدر الله- أخذ بعض السلطة في السياسة الخارجية، ومع من سيعقد التحالفات ويجعلنا تابعين لأوامره. وإني من موقعي هذا لأحيي من يستطيع أن يفهم العقلية والمنطق الذي يستند إليه الرجل وهو يطلق تصريحاته وتحذيراته المزعومة تواليا.
وفي الواقع فإن تصريحاته هذه، مثل كل تلك العبارات غير المنطقية، تخبرنا بشيء أبعد من حدها. فربما تكون تلك الكلمات تعبر عن أكثر بكثير مما أراد كيليجدار أوغلو نفسه قوله.
فهو من ناحية يعرب عن دعمه للموقف الذي اتخذته تركيا بشأن صفقة صواريخ إس-400 الروسية ويطالب بعدم تنازل تركيا عن حقوقها في منطقة شرق المتوسط، لكنه من ناحية أخرى يصف السياسات التي تنتهجها الحكومية التركية لتحقيق ما ينادي به بأنها أفعال حماسية مغامرة.
التراجع عن إرسال شحنات الأسلحة إلى ليبيا، تطبيع العلاقات مع مصر رغم كل انتهاكات حقوق الإنسان والممارسات القمعية هناك، عقد مباحثات مباشرة مع نظام الأسد الذي تقطر من يديه دماء مليون شخص.
من أجل كل ذلك يا سيد كيليجدار أوغلو؟ ماذا سنكسب لو فعلنا ذلك؟ وهل كل ذلك أقل مغامرة مما تتهم به سياسة تركيا الحالية؟ ألا ترى أن قرارنا بتطبيع العلاقات مع مصر التي استولى فيها السيسي على السلطة بانقلاب عسكري ليديرها ظلما وبهتانا يعني الاستسلام للكتلة التي تعادي تركيا علانية وتهدف لوضعها في الأسْر؟
لقد علم الجميع، بمن فيهم الأكثر جهلا، بأن الانقلاب العسكري في مصر لم ينفذ ضد مرسي وحسب، بل ضد تركيا كذلك. ربما لا يكون السيد كيليجدار أوغلو يعرف إلى الآن، لكن تركيا دولة تتمتع بأهمية كبيرة للغاية، دولة لها مكانة خاصة لدرجة تجعلها مصدر إلهام لموجات الربيع العربي. ولهذا فهم يهتمون لأمرها، وحتى إن لم تفعل أي شيء (فهي لم تفعل شيئا حقا خلال ثورات الربيع العربي)، فإنها تتعرض للاستهداف فقط بسبب صعودها وديمقراطيتها ونموها وكونها نموذجا يحتذى به.
ولهذا ظهرت في تركيا خلال أحداث غيزي بارك نسخة مماثلة ومتزامنة مع الانقلاب الذي وقع في مصر لإسقاط مرسي في صورة حركة تمرد. هذا فضلا عن أن كيليجدار أوغلو جاء في الصفوف الأولى لداعمي محاولة الانقلاب الفاشلة تلك. ولقد نجحت الحركة التي انطلقت في مصر بالتزامن مع ما حدث في تركيا، وها نحن نرى ما حدث بعد ذلك. وهذا يعني أن ما كنا سنراه في تركيا لو نجحت حركة غيزي بارك في الوصول لهدفها كان لن يختلف كثيرا عما نراه في مصر اليوم.
يرى كيليجدار أوغلو الأهمية التي توليها تركيا لليبيا دربا من دروب المغامرة، لكنه – على أي حال – لا يمكن أن يكون ملما بأن أمن تركيا يمتد حتى يصل إلى تلك المنطقة لكي نتمكن من الدفاع عن حقوقنا في شرق المتوسط. فالرجل يرى أنه لا يوجد أي شيء يهم تركيا في ليبيا التي يتدخل فيها الجميع من فرنسا وإيطاليا وروسيا إلى مصر والإمارات.
غير أننا لا نعرف ما إذا كانت تركيا قد أرسلت حقا أسلحة إلى هناك، لكن حتى ما إن أعلنت وجودها في المعادلة فإن كل الموازين قد تغيرت. فبين ليلة وضحاها فشل انقلاب الجنرال المتقاعد حفتر المدعوم من الإمارات التي تتولى كل عمل يستهدف تركيا، واضطر لسحب معظم ميلشيات المرتزقة لاعتقاده أن بإمكانه النجاة بهذه الطريقة.
أليس هذا كافيا ليحكي لنا أن تركيا تعتبر هي الطرف الذي يمتلك أبسط حقوق التدخل في ليبيا؟ وفي هذه الحالة باسم من كل تلك الدول التي تتدخل في ليبيا يمكن أن يكون السيد كيليجدار أوغلو يتحدث؟ وباسم من يا ترى يمكن أن يكون يطالب بانسحاب تركيا من ليبيا في حين أنها تمتلك أبسط الحقوق في قول كلمتها هناك؟
وما معنى ألا يكتفي كيليجدار أوغلو بتوجيه التحية لأسد سوريا وسيسي مصر وحفتر ليبيا بل ويوصي تركيا بتبني هذا الفعل كسياسة خارجية لا قيمة لها؟
ونفترض أننا فعلنا كل ذلك، فماذا سنكون قد كسبنا إذن؟ فمصر التي يحكمها السيسي تسير بسرعة كبيرة نحو الإفلاس. فحتى لو طبعنا علاقتنا بالسيسي، فليس هناك أي مشروع أو إمكانية تعاون يمكن أن تربطنا بمصر بوضعها الحالي وعجز الرجل عن إدارة شؤونها. فإذا اقتصر الأمر على تطبيع العلاقات، فهذا ليس صعبا إلى هذا الحد. تنسى كل ما حدث، إذا استطعت، لتنقذ العلاقات الدبلوماسية. لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، بل إنه يرجع إلى كيف ستواصل علاقتك وماذا بإمكانك أن تفعل وبماذا تثق إذا طبعت العلاقات على سبيل المثال. فالكتلة التي ينتمي إليها السيسي لم تتورع عن محاولة إثارة الاضطرابات في تركيا من خلال التدخلات ومحاولات الانقلابات حتى في أكثر الفترات التي كانت تربطها بتركيا علاقات جيدة.
وإذا نظرنا إلى الجانب الاقتصادي من القضية، فحتى أصغر صاحب متجر في مصر اليوم لا يستطيع فتح متجره بأمان. فالفساد والرشاوى وصلت إلى مستويات غير مسبوقة. كما أنه ليس هناك أي مؤشرات اقتصادية تعد بأي مستقبل باهر. وسبب ذلك هو أن الانقلابات تفسد كل شيء عن آخره وتحول دون سير أي عمل بشكل روتيني.
ولهذا فإن مصر الآن – للأسف – تعتبر دولة منهارة. فلا تطمع يا سيد كيليجدار أوغلو، فلم يربح من هناك شيئا أولئك الذين حافظوا على علاقتهم عند مستوى جيد. فالعلاقات مع مصر التي يحكمها السيسي لا تكسب أحدا شيئا، بل تؤدي إلى خسارته وتكون حملا على كاهله.
ويمكنكم طرح الأسئلة ذاتها بالنسبة لسوريا التي يحكمها الأسد، والردود لن تكون أقل وخامة.
ولهذا لا يمكن أن نفهم بماذا يطمح كيليجدار أوغلو عند أولئك الطغاة سفاكي الدماء؟
.
بواسطة/ياسين اكتاي