لقد كانت سياسة الحكومة التركية وفور ولادة الربيع العربي تعتمد على مبدأ الرحمة والرأفة، فمنذ البداية فتحت أبوابها للمهاجرين والمهجّرين، فتغاضت عن كثير من التجاوزات (إن صحت التسمية) من قِبل اللاجئين، ولكن عندما ارتفع صوت المعارضة التركية الكارهة لوجود اللاجئين أصلاً، طالبوا بتطبيق القوانين بشكل حازم.
وكانت الحكومة التركية تعفو وتصفح وتغضّ الطرف عن تلك التجاوزات، وتيسّر العسير على أصحاب الحاجة، تفاعلاً مع حالات اللاجئين، وتعاطفاً مع أوضاعهم الصعبة، وانطلاقاً من مبادئها الدينية والإنسانية والأخلاقية.
وأقصد بالتجاوزات كقيام بعض اللاجئين الوفود إلى استانبول، (مخالفين بذلك قانون بطاقة الحماية المؤقتة، التي تنصّ بعدم التنقل من ولاية إلى أخرى إلا بإذن من الولاية صاحبة تلك البطاقة)، فبعضهم لا يحمل بطاقة الإقامة المؤقتة، وبعضهم جاء من ولاية أخرى تبعاً لعمله ورزقه، فأسسوا أعمالاً، وفتحوا صناعات، واستأجروا متاجر وبيوت، مع أنّهم مخالفين للقانون، والحكومة تعلم ولكنّها متغاضية من باب التيسير لا من باب الغفلة.
وصحيح أنّ الحكومة كانت متعايشة مع حجم هذا الضغط الكبير على مدينة إسطنبول، ولكنّها بنفس الوقت كانت تخشى من تعالي الأصوات المعارضة ضدها، فكيف الآن وقد استلمت تلك المعارضة زِمام الحكم في استانبول وغيرها من المدن؟!
فبداية أقول للحكومة التركية: نُقدّر حجم الضغوط عليكم، ونحن لا نتعالى على قانونكم الذي وافق عليه كل من دخل بلادكم، ولكن نرجو منكم أن تسددوا وتقاربوا، فحال إخوتكم المهاجرين لا يتحمل المزيد من العناء والشدة، فقلوبهم تفتت بفراق أوطانهم وأحبابهم، ورُدّتْ لهم الروح عندما وجدوا من يُضمّد جراحهم من الأخوة الأتراك، فلا تكونوا عوناً للزمن والشقاء عليهم، فقد عهدوا فيكم الحكمة والطيبة والرحمة، فلا تخيبوا ظنّهم بكم.
وللمعارضة التركية التي تسعى جاهدة لتفتيت المهاجرين، والنيل من ضعفائهم، والوقوف مع ظالمهم، أقول: لو أنّكم تقرؤون تاريخ أجدادكم الصحيح لما فعلتم ذلك بأخوتكم في الدين والدم، فكثير من أجداكم وأخوالكم من العرب، والكثير من أجدادنا وأخوالنا من الترك، فصلة الوصل بيننا وطيدة، فقد كنّا جميعاً نعيش في أرض الدولة الإسلامية العثمانية، ولم تكن تفرّق تلك الدولة بين مِلة وأخرى وعرق وآخر، ولكن آفة القومية وحمّى الوطنية وسرطان الحدود أخذت حظاً من قلوبكم، وحيزاً كبيراً من فكركم، فما زلتم تُنمّون ما تبنّيتم من أفكار أعدائنا وأعدائكم، في التفريق بين أخوة الدين، وتشتيت هذه الأمة، فلو قدّرتم منتهى أفعالكم لرأيتم سوء خُطاكم في تحقيق مآرب أعدائكم ومخططاتهم.
ولأهلنا اللاجئين أقول: لا تلوموا الحكومة في أحكامها، فأفعالها صادرة منها على مضض ومكرهة عليها، لا لضعفها بل لاحترامها لقانون بلدها، فخصومها في المعارضة يطالبونها بالعمل بالقانون وبصرامة، فالتزِموا بما تُمليه عليكم الحكومة، وإياكم ومخالفة القانون، وحاولوا الخروج من أي مخالفة وقعتم بها بأسرع وقت، كتسوية وتخليص أعمالكم في استانبول والعودة إلى الولاية التي حصلتم منها على الإقامة المؤقتة، فما زالت حدّة تطبيق القانون تقضي على أحلامكم وآمالكم، وفي كل يوم يتعالى فيه صوت قانون جديد أو قديم ولكن بلباس أشد، وإياكم والتصادم مع المعارضة التي تسعى لزرع الفتن استفزازاً لكم، فلا تعطوها الفرصة لما تريده وتبحث عنه.
وأخيراً أقول لأهل الخير: إنما الله يُبعد عنكم السوء والبلاء بسعيكم على مساكين أمّتكم وأيتامها وضعفائها، فإن سلكتم غير هذا السبيل فإنّ الله سيكلكم إلى أنفسكم، فالملهوف الذي أغثتموه أمس أضحى سداً ذريعاً في وجه كل مكروه يداهمكم، فلا تذروا ثلة غافلة منكم تسعى لإزالة ذلك السد المنيع، فإن تركتموها وما تريد ذهب البلاء بالبشر والمدر والحجر والشجر، فأين العقلاء منكم والحكماء لتوجيه سدة السفينة إلى الطريق الصحيح والمسار الرشيد؟!
.