اللاجىء مفتاح سياسة تركيا السورية

أمهلت السلطات الأمنية التركية، السوريين الموجودين في مدينة إسطنبول ويحملون بطاقات حماية مؤقتة صادرة من ولايات أخرى بتصحيح أوضاعهم عبر العودة إلى مكان إقامتهم الأصلية خلال مدة أقصاها 20 آب المقبل. ليس هذا وحده ما يقلق الوافد السوري حتما.

النتيجة التي وصلنا إليها اليوم في صفوف الكثير من السوريين الذين يتابعون التحول في المواقف والقرارات المتبعة في موضوع اللجوء، هي حالة القلق المحير والمربك على حساب سياسة ” الباب المفتوح ” المعتمدة والتي تحملت تركيا والأتراك ارتداداتها وأعباءها بكل طيبة خاطر.

نعرف أن الذي يدفع عشرات الآلاف من السوريين الذين يعيشون في إسطنبول إلى الخوف والتخفي خشية التوقيف والاعتقال والترحيل هي التدابير الأمنية التي تطبق بشكل واسع لإنهاء حالة الفوضى والتسيب وخرق قانون الحماية المؤقتة كما تقول السلطات التركية. لكننا نعرف أيضا أن الوافد السوري يستغرب كيف كانت الأمور عليه قبل سنوات وكيف أصبحت اليوم لناحية التشدد في تطبيق شروط ومواصفات وشكل الإقامة والتنقل فوق الأراضي التركية خصوصا بعد الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا ونتائجها على أحزاب الحكم والمعارضة.

قبل أعوام كانت الحدود التركية السورية مشرعة أمام الآلاف من الراغبين في الدخول للحصول على الحماية وكان الحديث يدور عن ضيافة مؤقتة لعشرات الآلاف هربا من القتل والدمار والقمع. اليوم هناك من يتساءل تركيا وسوريا كيف وصلت الأمور إلى هذه الدرجة من التأزم في ملف اللجوء ومن الذي يتحمل مسؤولية التأخر في طرح وتطبيق خطة تنظيم قانوني واجتماعي وحياتي تأخذ بعين الاعتبار احتياجات الملايين من السوريين وتبدد هواجس المواطن التركي في حياته اليومية ومكان إقامته وعمله؟

المسألة هي حتما أبعد من إعادة السوريين إلى الأماكن التي كان عليهم أن يعيشوا فيها . ولن يكفي أن نرمي الكرة في ملعب اللاجىء الذي لم يلتزم بالقوانين أو لم يتأقلم مع الحياة في تركيا أو نحمل المسؤولية للمتآمرين على السلطات السياسية التركية لإحراجها وإضعاف موقفها أمام الرأي العام التركي والدولي في هذا الملف الحساس والمعقد.

السلطات السياسية أيضا في وضع لا تحسد عليه عندما تلجأ لتنفيذ جملة من التدابير والقرارات التي تطول الآلاف من الأجانب، وبينهم السوريون الذين يعيشون بصورة غير قانونية في المدن التركية الكبرى بعيدا عن الأماكن الواجب أن يكونوا فيها حسب بطاقات الإقامة واللجوء والحماية التي منحت لهم. فهناك من ينتظر فرصة من هذا النوع لتحميلها مسؤولية دورها في تعقيد المشهد السوري وسياستها التي زادت الأمور تشابكا وهم كثر.

في العام الأخير بدأت أحزاب المعارضة وأصوات منتقدة داخل الحزب الحاكم والمقربين منه في الإعلام تحذر من ارتدادات الملف على الداخل التركي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. تدهور الحالة الاقتصادية في البلاد تركت اللاجىء السوري أمام المواجهة المباشرة التي يعيشها اليوم أيضا.

لكن الوافد السوري الذي يتابع التحولات السياسية والاقتصادية في الداخل التركي عن قرب وهو يدرك حجم أعباء وارتدادات ملف اللجوء على البلد المضيف، لن يسقط حتما في فخ التحريض والتعبئة والتجييش التي يريدها أعداء تركيا وخصوم حزب العدالة والتنمية في الداخل والخارج .

هو لن يخلط بين حق السلطات في ضبط ملف اللجوء في تركيا بسبب ارتداداته السياسية والحزبية والاقتصادية والاجتماعية بعد الانتخابات المحلية الأخيرة التي غيرت المعادلات في العديد من المدن الكبرى لصالح أحزاب المعارضة وبين تمسك تركيا بالوقوف دائما إلى جانب اللاجىء السوري ومساعدته على تجاوز هذه المرحلة الصعبة.

اقرأ أيضا

الصبر مفتاح الفرج

مسؤوليتنا نحن أيضا كبيرة وفي مقدمتها إخراج اللاجئ السوري من وضعية أن يكون بين حلم الوعود السياسية والاجتماعية والحياتية المقدمة له لناحية فرص الإقامة والتعليم والعمل والتنقل والتجنيس، وبين اختبار صبره وتحمله لانتظار تنفيذ سياسة تسهيل عودته إلى وطنه وأرضه ليعمل وينتج ويعيش بأمان التي نكررها دون نتيجة.

من حالة ” أتووا وسيعودون سريعا ” عام 2011 إلى ” ما زالوا هنا فعلينا الصبر والالتزام بمواقفنا ” عام 2013، ثم ” يواصلون المجيء بكثافة لا بد من خطط تحرك أكبر وأوسع ” عام 2015 ، وبعدها ” هم لن يعودوا كما يبدو وبدؤوا يفكرون ويتحركون على هذا الأساس ” عام 2017 .

تنظيم عملية اللجوء وطريقة تحرك اللاجىء شيء وتراجع حزب العدالة والتنمية عن سياسة الباب المفتوح مع الوافدين الذين رحب بهم بكل طيبة خاطر شيء آخر. التراجع عن الليونة المعتمدة في ملف اللجوء بالمقارنة مع سياسات ماقبل عامين مسألة ورمي الكرة في ملعب اللاجىء السوري الذي لا يلتزم بالقوانين والقرارات مسألة أخرى.

نستقبل اللاجىء لأسباب إنسانية وأخلاقية ودينية لكن هناك الأسباب السياسية وحسابات مصالح تركيا وأمنها على المدى البعيد أيضا. الهاجس الأمني ومواجهة لعبة الكبار في سوريا وقلق خطط فرض خريطة سورية جديدة إلى جانب ارتدادات الملف على الكثير من القضايا الداخلية هي التي تدفع أنقرة للتحرك السريع على هذا النحو لضبط موضوع اللجوء ومحاولة معالجته في إطار هذه التطورات والمتغيرات.

ملف اللجوء لم يعد مسألة اختبار لحزب العدالة والتنمية بمفرده بل امتحانا صعبا للكثيرين بكافة ميولهم وتوجهاتهم. وربما هذه هي مشكلة القيادات السياسية الأهم التي لم تصغ إلى تحذيرات وأجراس خطر يقرع .

حساسية الموضوع تتطلب التحرك المدروس والقرارات الحذرة والاستعداد لكافة الاحتمالات ببعدها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إشراك الهيئات والجمعيات والتكتلات الناشطة باسم السوريين ضرورة لا يمكن تجاوزها. سياسة اللجوء برمتها تحتاج إلى مراجعة وتقييم كما يبدو لأن الأخطاء ستكون ارتداداتها على سياسة تركيا السورية بأكملها في الداخل التركي وفي سوريا نفسها. المسألة لم تعد أزمة لوحات يعلقها اللاجىء بالعربية على أبواب المتاجر والشركات التي أسسها في تركيا وتثير حساسية البعض. هناك مع الأسف بعض الأصوات المتشددة التي تطالب بكسر ” النفوذ ” وتفكيك ” الغيتوهات ” الواجب التعامل معها فورا لإقناعها بخطورة ما تفعل .

اختيار الواجهة من السوريين أو فئة المثقفين والميسورين لدمجها وتجنيسها والاستفادة منها ليست الحل لمشكلة مئات الآلاف التي تنتظر مساعدتها على العودة إلى أرضها ووطنها.

القضية لا يمكن حصرها بمغادرة إسطنبول فينتهي الأمر. أو أنه بسببكم خسرنا بلدية إسطنبول وعليكم أن تشاركونا في تحمل التبعات. هي مسألة طرح سياسة تنظيمية وقانونية واجتماعية تبدد حالة القلق والخوف في الجانبين من ارتدادات هذا الملف على المدى الطويل. اللاجىء بات اليوم مفتاح سياسة تركيا السورية وسط طابور الشامتين والناقمين والحاقدين والجاهزين لاستغلال الملف داخل تركيا وخارجها.

.

 بواسطة/ د. سمير صالحة
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.