كاتب شهير يروي القمع الوحشي والانتهاكات ضد أهالي كشمير

تناول الكاتب البريطاني من أصل باكستاني، أزمة إقليم كشمير الشق الهندي، وما يتعرض له المسلمون هناك من قمع وحشي من السلطات الهندية، راويا فظائع صادمة تعرض لها أهالي الإقليم المتنازع عليه بين الهند وباكستان.

والكاتب طارق علي يعد من أهم المُتخصّصين في شؤون جنوب آسيا، وسبق له نشر العديد من المقالات والدراسات حول النزاع في شبه القارة الهندية وأفغانستان، وتناول في مقاله الأخير في موقع “نيويورك ريفيو أوف بوكس“، ما يعانيه سكان كشمير محذرا من مصيرهم جراء قمع السلطات الهندية لهم.

وتاليا مقاله الكامل ..

في عالم متقلب، وفي خضم حروب عنيفة واحتلالات امبريالية، وبينما يُلقى بكل القيم بلا هوادة جانباً، هل كانت لدى كشمير فرصة حقيقية في التحرر؟ في أجواء عمت فيها القلاقل وسرى الاضطراب، بادرت الهند –المتبجحة بأنها أكبر ديمقراطية في العالم– إلى فرض تعتيم إعلامي كامل وقطع الاتصالات عن كشمير التي باتت معزولة تماما عن العالم.

وحينما يوضع حتى أكثر الزعماء السياسيين تنازلاً وتعاوناً معها تحت الإقامة الجبرية، فإن المرء لا يملك إلا أن يخشى الأسوأ بشأن مصير بقية سكان المنطقة.

لقد حُكمت كشمير بوحشية بالغة لما يقرب من نصف قرن من دلهي. وفي عام 2009 تم اكتشاف ما يقرب من ألفين وسبعمائة قبر مجهول في ثلاثة فقط من محافظات المنطقة الاثنتين والعشرين، الأمر الذي أكد شكوكاً طالما دارت في الأذهان من وجود تاريخ طويل من الاختفاء القسري وعمليات القتل خارج القانون.

لطالما تحدث الناس عن تعرض النساء والرجال للتعذيب والاغتصاب، ولكن نظراً لأن الجيش الهندي فعلاً فوق المساءلة القانونية فإن جنوده يمارسون هذه الجرائم الفظيعة في ظل شعور بالأمن من المساءلة والمحاسبة، ولذلك لم يحصل حتى الآن أن وجهت لأحد تهم بارتكاب جرائم حرب.

من باب المقارنة، تحركت النسوة في ولاية مانيبور في أقصى شمال شرق الهند، واللواتي يتعرضن بشكل دائم للاغتصاب من قبل أفراد الجيش الهندي، ونظمن تظاهرة في عام 2004 كانت الأكثر صدماً والأشهر على الإطلاق بين كل التظاهرات الشعبية – حيث تجردت مجموعة مما يزيد قليلاً عن عشرة نساء تقريباً، تتراوح أعمارهن بين الثامنة والثمانين، من ملابسهن تماماً وتجمعن أمام المقر المحلي للجيش الهندي وهن يحملن لوحات كتب عليها شعار تعنيفي ساخر يقول “تعالوا واغتصبونا”. كانت تلك التظاهرة الاحتجاجية قد نظمت للتعبير عن سخط النساء في الولاية على ما جرى للناشطة الهندية ثانغجام مانوراما التي مُثل بها وأعدمت بعدما تعرضت لاغتصاب جماعي يعتقد بأن مرتكبيه كانوا عناصر من مجندي كتيبة بنادق آسام السابعة عشر. رغم تعرض نظرائهن في كشمير لممارسات مثلها، بل وربما أسوأ وأبشع منها، إلا أنهن لا يجرؤن على التظاهر مثلهن لما يعشن فيه من رعب شديد.

تخشى كثير من النساء في كشمير إخبار عائلاتهن بما يتعرضن له من أذى على أيدي عساكر الهند، وذلك خوفاً من التعرض للاضطهاد على يد الذكور داخل عائلاتهن باسم الغضب دفاعاً عن “الشرف”. بعد بحث ميداني أجرته في الفترة من 2006 إلى 2011 حول انتهاكات حقوق الإنسان في كشمير، وصفت أنجانا شاترجي، التي كانت حينها أستاذة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في معهد كاليفورنيا للدراسات المتكاملة (وتشارك الآن في رئاسة البرنامج في جامعة كاليفورنيا في بيركلي) أحد المشاهد المريعة التي اكتشفتها أثناء بحثها على النحو التالي:

كثيرون كانوا يُكرهون على مشاهدة اغتصاب النساء والفتيات من أفراد عائلاتهم. يقال إن إحدى الأمهات أمرت بمشاهدة عملية اغتصاب ابنتها من قبل أفراد الجيش، فوقفت ترجوهم وتناشدهم أن يخلوا سبيل طفلتها، فلما رفضوا، ناشدتهم قائلة إنها لا تقوى على المشاهدة، وطلبت منهم أن يخرجوها من الغرفة أو أن يقتلوها، فسدد أحد الجنود بندقيته إلى رأسها وقال إنه سيلبي لها رغبتها ويحقق أمنيتها، ثم أطلق عليها النار وقتلها، ليمضي الجنود من بعد ذلك في مهمة اغتصاب ابنتها.

منذ ثمانينيات القرن الماضي والهند تمارس نمطاً من الاحتلال العسكري الاستعماري، من خلال منظومة تستشري فيها الرشوة وتمارس فيها التهديدات وإرهاب الدولة والإخفاء القسري، وكل ما يخطر بالبال من فظائع. ما من شك في أن الحكومة الهندية تتحمل المسؤولية الكاملة عن ذلك، ولكن دلهي ساعدها فيما قامت به ذلك الغباء الذي يعجز المرء عن وصفه لدى قيادات الجيش وجهاز المخابرات (آي إس إس) في الباكستان في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، حينما لم يستوعبوا أن ما ظنوه نصراً مؤزراً لهم في أفغانستان لم يكن سوى تفوقاً للولايات المتحدة في حربها الباردة ضد السوفيات استخدمت فيه أمريكا الباكستانيين والجهاديين أدوات. في ذلك الوقت كانت الجماعات الجهادية، أو ما عرف حينها بالمجاهدين، يعاملون من قبل ريغان وثاتشر – ناهيك عن وسائل الإعلام الليبرالية في الغرب – على أنهم “مناضلون من أجل الحرية”، وكان لذلك المديح فعل المخدر على عقول أوليائهم في جهاز المخابرات الباكستاني. لقد ظن جنرالات الجيش الباكستاني أن مشروعاً مشابهاً في كشمير يمكن أو يؤدي إلى إحراز نصر آخر.

وهكذا، كانت باكستان مسؤولة عن تسريب المقاتلين الجهاديين بعد “نجاحهم” في أفغانستان. ولكن كانت العواقب في كشمير كارثية. فقد ساعد ذلك في تدمير النسيج الاجتماعي والثقافي لما كان حتى تلك اللحظة إلى حد كبير ثقافة إسلامية قوية متأثرة بأشكال متنوعة من الروحانية الصوفية، كما ساهم في إثارة كثير من الكشميريين ضد الحكومتين معاً. لجأ الآلاف إلى ملاذات أخرى آمنة داخل الهند بينما عبر المئات من طلاب المدارس وعائلاتهم الحدود إلى الجزء الآخر من كشمير، ذلك الذي يخضع للسيطرة الباكستانية. سعى كثير من هؤلاء فيما بعد للحصول على تدريب عسكري، إلا أن الثورة المسلحة التي انطلقت في التسعينيات ما لبثت أن تعرضت للسحق بفضل التفوق العسكري الهندي.

وأخيراً، وبعد أن كشفت هجمات الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 عن حماقة استخدام الجهاديين كمقاتلين بالوكالة، أجبرت الولايات المتحدة باكستان على تفكيك شبكات التطرف التي أقامتها في كشمير. ولكن ظلت هناك بعض البقايا التي كل ما فعلته هو أنها عزلت الإقليم وحالت دون أن يحظى بالمساعدة المحتملة من أماكن أخرى في البلاد. إذ لم يكن ثمة مفر أمام الوطني الجيد من أن يغض الطرف عما كانت الحكومة الهندية (أياً كانت ملامح وجهها) أو جيشها يفعلانه في كشمير.

إلا أن السخط السياسي لم يبرح مكانه. ففي الحادي عشر من يونيو / حزيران من عام 2010، أطلق أفراد مجموعة شبه عسكرية تعرف باسم قوة شرطة الاحتياط المركزية قنابل مسيلة للغاز على تظاهرة شبابية كان المشاركون فيها يحتجون ضد عمليات قتل نفذتها من قبل قوات أمنية مدعومة من قبل الهند. أصابت إحدى القنابل رأس فتى في السابعة عشرة من عمره اسمه طفيل أحمد ماتو ففجرت دماغه. نشرت الصحف الكشميرية صورة للفتى المقتول وهو ملقى على أرض الشارع، إلا أن الصور لم تنشر في أماكن أخرى داخل الهند حيث تم فعلياً تجاهل الحدث تماماً. تمخض عن ذلك انطلاق تمرد سياسي، حيث تحدى عشرات الآلاف من الناس حظراً فرض على التجول وخرجوا في موكب حاشد في جنازة ماتو وهم يتعهدون بالانتقام له. قتل في الأسابيع التي تلت ما يزيد عن مائة من الطلاب والشباب العاطلين عن العمل، وما لبثت الكراهية التي يشعر بها الناس تجاه الحكومة في نيودلهي أن وحدت الكشميريين بالرغم مما بينهم من اختلافات في الرأي.

إلا أنه سرعان ما يصاب المرء بالإجهاد من متابعة ما يرتكب من فظائع، وخاصة إذا كانت الدولة المتهمة بذلك حليفاً مقرباً. كانت الهند تحتل هذه المرتبة لدى إسرائيل، وانضمت إليها مؤخراً كل من المملكة العربية السعودية وكولومبيا والكونغو. فعلى سبيل المثال يرتبط رئيسا الوزراء بنجامين نتنياهو ونارندرا مودي بعلاقات مودة وثيقة، ولقد شوهد “المستشارون” الإسرائيليون خلال السنوات الأخيرة داخل كشمير – في إحياء للتعاون الاستخباراتي والأمني الوثيق الذي يعود إلى مطلع الألفية الحالية. ولعل من المثير للاهتمام في هذا الصدد أن إلغاء المادة 370 سيتمخض عنه إجراءات تشبه إلى حد التطابق ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. فقد كانت المادة 370 توفر نوعاً من الحماية للتركيبة السكانية في كشمير من خلال حصر حق الإقامة في الولاية في أهل كشمير دون سواهم. كما أن بندا في المادة 370 يعرف بالبند 35أ يحظر بيع العقارات إلى غير الكشميريين ويمنع خطة كان الهدف منها تقسيم كشمير إلى ثلاث دويلات من البانتوستانات المعزولة.

وثمة تشابه كبير أيضاً في آلية الدعم غير المشروط الذي تقدمه الولايات المتحدة. فمن وجهة نظر كشمير، كان الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون جميعاً، كلينتون وبوش وأوباما وترامب، على نفس النهج – من حيث نزوعهم نحو التقليل من قيمة إرهاب الدولة في المنطقة بل وغض الطرف عنه لأن القاع الضبابي (المنطقة التي تتواجد فيها مؤسسات الدولة الأمريكية في واشنطن) يرى في الهند حليفاً استراتيجياً، لما يمكن أن يحصل عليه منها من منح اقتصادية محتملة، وبسبب قربها من الصين وباعتبارها شريكاً في “الحرب على الإرهاب”. فهذا مودي، الذي كان ذات مرة قد منع من الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة عقاباً له على المذبحة التي ارتكبت بحق المسلمين في عام 2002 تحت سمعه وبصره بوصفه الوزير الأول في ولاية كوجارات، أضحى اليوم رجل دولة يحتفى به ويشاد بجرأته وعدم خشيته من اتخاذ قرارات صعبة: فهو عبارة عن نموذج هندي لمزيج مما عليه ترامب ونتنياهو.

ثمة حاجة لرؤية الصراع في كشمير من خلال منظور تاريخي، وهو الصراع الذي تمخضت عنه حربان بين الهند والباكستان وإجراءات قمع داخل الإقليم يشيب لسماع فظاعاتها شعر الوليد. جرى تقسيم الهند في عام 1947 على أساس أنه في المناطق الشمالية والشرقية من الهند البريطانية، حيث توجد أقاليم كبيرة يعيش فيها مزيج من الناس – البنجاب والبنغال، سيتم التقسيم بناء على الانتماء الديني. كانت النتيجة حمامات دم من العنف المجتمعي شهدت موت ما يزيد عن مليون نسمة وتدفق أعداد ضخمة من اللاجئين. في غير ذلك من المناطق، أصرت اتفاقية عام 1947 على “الولايات السلطانية” التي أوجدها الاستعمار ويحكمها موظفون في الحكومة البريطانية دون أدنى ممارسة للإجراءات الديمقراطية وعلى رأس كل منها حاكم رمزي يسمى المهاراجا. نصت خطة التقسيم على أن الولايات التي يحكمها مسلم ولكن جل سكانها من الهندوس فإن على حاكمها أن ينضم إلى الهند.

في حيدرآباد، حيث تأخر النظام (المتمثل بالملك المحلي) في إعلان انضمامه إلى الهند، سار الجيش الهندي باتجاهها وحسم الأمر بالقوة. أما في كشمير، حيث كان الماهاراجا هاري سنغ هندوسياً بينما ثمانون بالمائة من السكان كانوا مسلمين، كان من المفترض أن يوقع الحاكم أوراق الانضمام بحيث تصبح الولاية جزءاً من الباكستان، لكن سينغ تسكع وظل يسوف.

اقرأ أيضا

كان قائد الجيش الباكستاني آنذاك هو الجنرال البريطاني دوغلاس غراسي، الذي اعترض على أي استخدام للقوة. فأرسلت حكومة باكستان مقاتلين غير نظاميين يقودهم ضباط مسلمون على رأس عملهم في الجيش الباكستاني ويتكونون بشكل أساسي من عناصر قبلية باشتونية أقل ما يقال فيهم إنهم ينقصهم الانضباط العسكري. كان التأخير ليومين قاتلاً، إذ تسبب في وقوع عمليات نهب وسلب واغتصاب بحق السكان المحليين. كان بإمكان قوة أفضل تنظيماً أن تستولي على مطار سريناغار بلا مقاومة تذكر، ولربما كان ذلك كفيلاً بحسم الأمر.

ولكن بدلاً من ذلك قامت حكومة نهرو في نيودلهي في أكتوبر من عام 1947، بمساندة من القائد الأعلى لقواتها، وهو بريطاني، وبدعم من داعية السلام ماهاتما غاندي، بنقل القوات الهندية جواً ثم إجبار الماهاراجا على الانضمام إلى الهند، واحتلال الإقليم بأسره، والذي وصفه نهرو نفسه بأنه “قلب الهيمالايا المكسو بالثلوج.”

اندلعت على إثر ذلك الحرب مع الباكستان، وكانت الهند هي من أحال الأمر إلى الأمم المتحدة التي طالبت بوقف مباشر لإطلاق النار على أن يتبعه في العاجل إجراء استفتاء على مستقبل المنطقة. تم في يناير / كانون الثاني من عام 1949 الاتفاق على خط الهدنة والذي بقي بموجبه ما يقرب من ثلثي كشمير تحت السيطرة الهندية. وطوال خمسينيات القرن العشرين تعهد الزعماء السياسيون المتعاقبون من حزب المؤتمر، بمن فيهم نهرو وكريشنا مينون، في العلن بأنهم ملتزمون بإجراء الاستفتاء، ولكن ذلك لم يتحقق بتاتاً لأنهم كانوا يشعرون بالقلق سياسياً، وهدهم الشعور بالذنب ولم يكونوا قادرين إطلاقاً على التأكد من توجه الناس وما إذا كانوا سيرغبون في الانضمام إلى الهند أم إلى الباكستان. ما من شك في أن للديمقراطية مشاكلها.

وإدراكاً منهم لبشاعة الوضع الذي جنته أياديهم، أدرج السياسيون في دلهي في الدستور المادة 370 بما تضمنته من بنود لإضفاء درجة نادرة من الحكم الذاتي على كشمير. وبفضل هذا الوضع الخاص، حُظر على أي شخص غير كشميري الحصول على حقوق الإقامة والتملك في المنطقة، والأهم من ذلك أن الحكومة الهندية ألزمت نفسها بإجراء الاستفتاء – أي التصويت على منح الكشميريين حق تقرير المصير لحسم المشكلة التي نجمت عن القرار القاتل الذي اتخذه المهاراجا. تلك كانت الجزرة التي قدمت للشيخ عبدالله، الزعيم الكشميري المؤيد لحزب المؤتمر والذي شكل حكومة انتقالية وقبل بالضم المؤقت إلى الهند.

كان عبدالله، وهو نجل تاجر شالات، شخصية أسطورية في زمن تقسيم الهند، فقد قاتل أثناء الحقبة الاستعمارية في سبيل الحقوق الاجتماعية والسياسية لشعبه، وكثيراً ما كان يستشهد ببيت للشاعر إقبال: “في رياح الشتاء القارص يرتعش جسده العاري بينما تكسو مهارته الأثرياء بشالات ملكية”. فهم نهرو للوهلة الأولى بأنه دون الحصول على دعم الشيخ عبدالله، الزعيم المسلم، فلن يتسنى عمل شيء إزاء كشمير. ومع ذلك لم يكن ثمة مفر من اندلاع الصدام بينهما.

استمر عبدالله في المطالبة بإجراء الاستفتاء، ولكن نهرو ظل يرفض بعناد، فتفرقا وتشاجرا. ظل عبدالله يدخل ويخرج من السجن بينما صارت كشمير تحكم فعلياً من داخل دلهي. ومع ذلك لم يتحد أحد المادة 370 – فيما عدا، في جانب، من قبل باكستان التي كانت ترى في المادة أساساً لاستمرار الاحتلال الهندي، وفي الجانب الآخر، من قبل المنظمة القومية الهندوسية اليمينية المتطرفة آر إس إس، التي اشتهرت بسمعتها السيئة على مستوى العالم من خلال قرارها – والذي مازالت تدافع عنه حتى يومنا هذا، اغتيال غاندي في عام 1948.

وفي عام 1951، أوجدت كوادر آر إس إس ما يمكن اعتباره سلفاً لحزب باراتيا جاناتا (بي جيه بيه)، والذي سار على نهج آر إس إس مطالباً باستمرار بما وصفه “تطبيع” كشمير. واليوم، يعتبر رئيس وزراء الهند الحالي نفسه نتاج خط الأنابيب الممتد من آر إس إس إلى بي جيه بيه، وهو الذي تدرب منذ طفولته ليكون متطوعاً في تنظيم شبه عسكري. ومع ذلك، وحتى الآن، ظلت الحكومات المتعاقبة لحزب بي جيه بيه، وكذلك حكومات حزب المؤتمر، تحافظ على بقاء المادة 370 كما هي دون مساس بها، حتى وهم يكثفون إجراءاتهم القمعية في كشمير وبينما كانوا يصدرون للجيش الهندي سلسلة من الشيكات على بياض. ولكن الآن، وبعد أن حقق حزبه نصراً انتخابياً على معارضة ضعيفة ومنقسمة، قرر مودي المضي قدماً حتى النهاية، لدرجة أنه أشاد بقرار إلغاء المادة 370 في تغريدة له يوم السادس من أغسطس / آب جاء فيها:

“أحيي أخواتي وإخواني في جامو كشمير ولاداخ {التصنيف الجديد للأراضي الثلاث في المنطقة المتنازع عليها} على شجاعتهم ومصابرتهم. على مدى سنوات، لم تهتم الجماعات ذات المصالح الشخصية، والتي اعتنقت الابتزاز العاطفي، بتمكين الشعب. باتت جامو وكشمير الآن محررة من أصفادها، ينتظرها فجر جديد وغد أفضل”.

لا يخفى على أحد ما في هذا التصريح التضليلي من غش، ولا أدل على ذلك من أنه أسقط كلمة “الهندوس” عندما قال “أخواتي وإخواني”.

ما الذي سيحدث الآن؟ أما حزب الكونغرس والأحزاب الأخرى إلى اليسار منه فسوف تتباكى على المادة 370 وسترفض الاعتراف بأن سياساتها وصمتها هما ما مهد الطريق أمام مودي ليدفع باتجاه تحقيق مطالب حزبه. لقد أخرس الخوف والانتهازية الهند اللبرالية – بما في ذلك نجوم بوليوود من المسلمين الذين ينحنون أمام هذه الحكومة ليعبروا عن ولائهم لها، تماماً كما كانوا يفعلون مع زعماء حكومات المؤتمر المتعاقبة، غير مدركين أنه لا يوجد شيء اسمه “مسلم جيد” في معجم مودي. ونفس الشيء ينطبق على معظم كتاب الأعمدة في الصحافة الهندية ومقدمي البرامج التلفزيونية، كما يشتكي الكاتب بانكاج ميشرا.

عدد قليل من المعلقين الهنود استهجنوا بشكل مستمر وبليغ سجل الهند في تزوير الانتخابات وارتكاب الفظائع في الوادي، حتى وإن تكلموا أساساً بهدف التنفيس بدلاً من التضامن مع التطلعات الكشميرية. ولكن العدد الأكبر كانوا ينزعون نحو التوتر كلما ورد ذكر التذمر في وادي كشمير.

قال مودي إن ما أقدم على فعله إنما هو “الحل الكشميري” العقلاني الوحيد. فبالنسبة له يمثل ذلك الحل السياسي النهائي، وإذا ما اعترض المسلمون في كشمير، فسوف يتعرضون بكل بساطة للسحق. وها هم الآن رجال الأعمال من خارج كشمير يلعقون أصابعهم لما يظنون أنه ينتظرهم من فتوحات بفضل خطة فتح آخر الجبهات بعد إزالة كافة العوائق القانونية. ولك أن تقرأ التغريدات المقززة التي تصدر عن البراهمينز (طبقة الأكابر من الهندوس) إذ يحتفلون ويقترحون التوجه للإقامة هناك “وتزوج الفتيات الكشميريات”، بل ويقولون ما هو أسوأ من ذلك.

في باكستان، قررت حكومة عمران خان سحب سفيرها وطرد السفير الهندي، وطبعاً لا قيمة للإجراءات الرمزية ولا للألفاظ البذيئة، فهذه كلها لا تجدي نفعاً. ولكن هل يكون البديل اندلاع حرب أخرى غير نووية؟ أشك كثيراً في ذلك. فلا الولايات المتحدة ولا الصين، وكلاهما حليفان مقربان، تؤيدان مثل هذه الخطوة، وقد يقدم صندوق النقد الدولي مباشرة على إلغاء قرضه الجزائي للباكستان.

لقد عانى الفلسطينيون قهراً مريعاً عبر تاريخهم، ولكنهم يحظون ببعض الدعم من قبل الناس في الخارج، بما في ذلك حركة المقاطعة العالمية بي دي إس. يؤكد مودي ونتنياهو كلاهما أن “التطبيع” يعني إلى حد كبير التقدم الاقتصادي ويتصورون، كما تشير خطة صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره جاريد كوشنر بخصوص فلسطين، أنه يمكن ببساطة شراء التطلعات السياسية والوطنية للشعوب من خلال الرشاوي. مع أن العكس تماماً هو ما يثبته تاريخ الحركات المناضلة ضد الاستعمار، كما يثبت ذلك أيضاً فشل المحاولات الأخيرة لإعادة استعمار العالم العربي.

في الأسبوع الماضي وردتني الرسالة التالية من محام كشميري يعمل في لندن: “لم أتمكن من التواصل مع عائلتي منذ ستة أيام حتى الآن. أسوأ ما في الأمر أننا مخفيون عن العالم، وليس فقط عن الغرب. انظر إلى الموقف المخزي للحكومات العربية والدعم الصريح الذي منحته الإمارات العربية المتحدة لمودي.”

بالرغم من التعتيم الإعلامي الكامل الذي تفرضه الهند، بدأت الآن بعض الصور والمقاطع ترد من كشمير وتظهر في اليوتيوب، ومنها مقطع لأم تبكي في جناح أحد المستشفيات خشية أن تفقد ابنها الذي أصيب بجراح بليغة بسبب طلق ناري، ومنها مقطع لصاحب دكان يصف فيه كيف اقتحم الجنود المحل وبدأوا بإطلاق النار دونما سبب على الإطلاق. وهناك صور ومقاطع للشوارع وهي خاوية خالية. أخشى أن يكون شعب كشمير، الذي انعزل عن العالم وعزله العالم، يتنسم هواء الليل وهو واقف على حافة الهاوية.

.

المصدر/عربي 21

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.