تخوض منذ فترة مجموعة من الأمهات بولاية ديار بكر التركية واحدة من أبرز حالات التمرد في تاريخ الولاية لإنقاذ أبنائهن من بين مخالب منظمة بي كا كا الإرهابية، وهن بذلك يفشين السر الكبير الذي يعلمه كل من في المنطقة ويشعر بآلامه لكنه لا يجرؤ على الحديث عنه أبدا. وليس ثمة أي تمرد أكثر شجاعة وثورية من كشف النقاب عن الحقائق الملفقة والمخفية. ولا يمكن لأحد آخر أن يكون لديه الحق والقدرة على إفشاء هذه الحقائق المخفية والملفقة أكثر من الأمهات؛ إذ لا يمكن لأي أكاذيب أيديولوجية أن تخفف آلام أم ثكلى.
عندما أظهر تمرد الأم “هاجرة”، التي فقدت ابنها في ديار بكر، عُري حزب الشعوب الديمقراطي، انضم إلى هذا التمرد أمهات وآباء وإخوة آخرون. وهكذا فقد اتضح جليا لنا أبعاد عملية استغلال الأطفال الجماعية والممنهجة التي لطالما حاولت منظمة بي كا كا الإرهابية إضفاء الصبغة الشرعية عليها بوصفها دفاعا عن القضية الكردية، وسعى سياسة حزب الشعوب الديمقراطي لتزيينها كنتيجة سوسيولوجية وسياسية حتمية تمخضت عن حالة الاستياء التي أفرزتها القضية التي لم يجد أحد لها حلا حتى الآن.
لقد صاحت الأم الثكلى لتكشف عن آلامها بأوضح طريقة عندما قالت “دعوكم من قضية كردستان التي تتغنون بها! لقد فقدنا أرواحنا، فهل تهتمون لأمرنا؟ إنكم لم تتركوا شبابًا في ديار بكر، فالشباب إما في السجون أو تحت التراب. وفي الوقت الذي تجلسون فيه على الكراسي، فإنّ أبناء الفقراء يصعدون إلى الجبال!” ولعل هناك حقيقة أساسية على الجميع أن يعرفها، ألا وهي أن هذه القضية، إن كان هناك قضية من الأساس، لن تحل من خلال الأبناء الذين ينتزعون من بين أحضان أمهاتهم.
فبالرغم من كل شي، فلا أحد يستطيع إقناعنا بأن القضية التي تدعي بي كا كا أنها تدافع عنها من خلال تسليح الأطفال الذين تخطفهم من آبائهم وأمهاتهم لتصعد بهم إلى الجبال، تمثل القضية الكردية بأي شكل من الأشكال. وثمة حقيقة أخرى كشف عنها مبكرا قبل الحقيقة التي أفشتها الأمهات اليوم، ألا وهي أن تلك المنظمة تخدم مصالح كل القوى الإمبريالية والصهيونية المحتلة في المنطقة وكأنها حصان طروادة تابع لها.
إن هذه المنظمة الإرهابية لا تهتم لا بالأكراد ولا بدينهم أو عاداتهم أو قيمهم أو هويتهم أو أبنائهم أو أمهاتهم، فما يهمها فقط هي التحالفات التي تربطها بالقوى المحتلة. وأما أبرز المواد الأساسية لهذا التحالف ووقودها ووسيلتها الرئيسة هم الأطفال الذين يحملون السلاح. ولهذا يجب على المنظمة تجنيد هؤلاء الأطفال بأي طريقة كانت، وإلا ستفقد اعتبارها وموثوقيتها لدى ساداتها.
لم تعد المنظمة قادرة على خداع الشباب الذي تخطى سن الطفولة، فلم تعد لديها أي حجج أو أيدولوجية تستطيع بها إقناعهم، ولهذا فقد اتجهت نحو الأطفال الذين تستغل من أجل خداعهم الكوادر التنظيمية والبلديات التابعة لحزب الشعوب الديمقراطي بصفتها أكثر الوسائل المفيدة في هذا الشأن؛ إذ إن الحزب يستغل على وجه الخصوص المراكز الشبابية والرياضية والثقافية الخاضعة لعهدة بلدياته ليس من أجل تنشئة جيل كردي أكثر حرية وترفيها وصحة وفكرا وضميرا، بل من أجل تجنيد الأطفال واستدراجهم إلى الجبال من أقصر طريق ممكن.
إن الأطفال الذين يداومون على هذه المراكز ويشاركون في تلك الفعاليات ليسوا بحاجة إلى أي حجة معقولة كي يصعدوا إلى الجبال ويمسكوا السلاح ويضغطوا على الزناد ليسلبوا الناس أرواحهم. ولا يمكن بأي حال إضفاء أي صبغة شرعية على ما يرتكبه أطفال بعُمر يعتقدون وهم فيه أن إزهاق الأرواح لعبة بين أيديهم.
بيد أن منظمة بي كا كا الإرهابية وحزب الشعوب الديمقراطي لا يتورعان عن تأسيس أحقيتهما على هذه الأرضية الفاسدة. ولقد كررا الدعاية التي سهلت الطريق كذلك أمام تنظيم غولن الإرهابي قبل سنوات، والتي تقول: “إننا الجيل الأخير الذي بإمكانكم الحديث معه، فلو فشلتم في حل هذه المسألة معنا فلن تستطيعوا حلها مع من سيأتون بعدنا أبدا، ذلك أنهم في وضعية لن تسمح لهم بالاستماع لأي شيء”. لقد كان من بين من رددوا هذه العبارات دون حياء سياسيون من كوادر حزب الشعوب الديمقراطي المخضرمين من الذين أُعلنوا أبطالا للديمقراطية ومظلومين حُرموا حرية التفكير. وأما الورقة التي يثقون بها وهم يطلقون هكذا تهديد فقد كانت الأطفال الأكراد المساكين الذين خدعوهم وحرضوهم بأنفسهم وحولوهم إلى عبيد لا يمكن الحديث معهم أبدا وربوهم أولا على مسك الحجارة ثم حمل السلاح.
بيد أنه عندما تدخلت الدولة وضيقت الخناق على الإرهابيين، انسحب أولئك المجرمون من على الساحة وقضى هؤلاء الأطفال وقتا أطول مع آبائهم وأمهاتهم، وحينها ظهر لنا أن هؤلاء الأطفال أطفالا أبرياء مثلهم مثل بقية الأطفال الآخرين.
إن حزب الشعوب الديمقراطي صار عاجزا عن خداع الأطفال لاستدراجهم لمعسكرات بي كا كا كما كان يفعل في السابق؛ إذ يفشل المخطط وراء المخطط للإرهاب بالوكالة، ليعجز الحزب عن الوفاء بوعوده. لكن بالرغم من ذلك فإن من وعدهم لا يبخلون أبدا عن تقديم الدعم اللازم عن طريق غض الطرف عن جرائم استغلال الأطفال الجماعية والممنهجة التي يرتكبها في هذه اللفترة القصيرة. وهو ما يوضح – في الواقع – بشكل كاف لماذا لا نرى رد فعل من الفنانين والسياسيين ومنظمات المجتمع المدني التي ننتظر أن تعرب عن رد فعل “ولو لمرة واحدة”.
وبالمناسبة اسمحوا لي أن أكرر ثانية أن واحدة من أهم المساهمات التي تقدمها بلديات حزب الشعوب الديمقراطي للمنظمة هي التمويل المباشر وغير المباشر وتزويده بالكوادر البشرية التي تصعد إلى الجبال. وإلى جانب الأوساط الثقافية والرياضية والفنية والاجتماعية التشجيعية التي ذكرناها في هذا الشأن أعلاه، فهناك طريقة أخرى لتحقيق هذا، لكن أحدا لا يعلمها أو يتحدث عنها كثيرا؛ ألا وهي أن بلديات حزب الشعوب الديمقراطي أو المؤسسات التابعة له تتبع معيار “دفع الثمن” عند اختيار الكوادر من أجل القضية التي تزعم المنظمة أنها تدافع عنها. وبطريقة ما فإن الحزب والمنظمة يكافآن / يعوّضان الشباب الذين ينضمون لصفوف المنظمة من خلال تعيين أحد أقاربهم في إحدى مؤسسات البلدية. وبطبيعة الحال فإن الكثير من الخلافات الخطيرة تحدث في معظم الحالات بين قاعدة العامة حول إلى أي مدى يطبق الحزب هذا الأمر بطريقة “عادلة” (!) وفق موازينه الداخلية.
غير أن الجميع يعلمون أن الحزب قد أضفى صبغة شرعية على الطريقة التي يورّد بها الكوادر البشرية للمنظمة الإرهابية من خلال تمويل هذه العملية من الضرائب التي يدفعها مواطنو الجمهورية التركية. هذا فضلا عن أن بلديات الحزب لا تتمتع بأي قوة أو شجاعة لوضع مسافة بينها وبين بي كا كا في ظل الظروف الحالية، ولهذا فإن هذا النظام سيسير على هذا النحو على الدوام.
إن بلديات حزب الشعوب الديمقراطي تعتبر مركز الآلية التي تخطف الأطفال من أمهاتهم وتستغلهم كوقود لنار الكراهية والعنف الذي أشعلوا فتيلها. وإن حملة التضامن التي يخوضها رئيس حزب الشعب الجمهوري ورئيس بلدية إسطنبول الكبرى، وهما يعلمان ذلك جيدا، لا تجعل كوادر حزب الشعوب الديمقراطي أبطالا للديمقراطية، بل شركاء في جريمة إرهابية مقززة يستغل مرتكبوها الأطفال حطبا لنارهم.
.
بواسطة/ ياسين اكتاي