إن الأمهات اللواتي يطالبن حزب الشعوب الديمقراطي بإعادة أبنائهن الذين اختطفتهم منظمة بي كا كا الإرهابية في ديار بكر لا يفشين فقط السر الكبير الذي يعلمه الجميع، بل إنهن – في الوقت ذاته – يدعوننا لإعادة كتابة كل تجارب النصف قرن الماضية الخاصة بالقضية الكردية ومسألة مكافحة الإرهاب.
العُقدة التي تحملها طوال العمر تلك الأم التي عادت إلى بيتها دون أن تتمكن من الحديث ولو بكلمة واحدة مع نجلها المسجون عند زيارته لحظر الحديث باللغة الكردية أو تلك التي تلقت ضربة بعقب بندقية أحد الجنود لمحاولتها التفوه ولو بكلمة أو كلمتين باللغة الكردية، والغضب الذي تراكم لدى سائر أبنائها الذين سردت عليهم هذه العُقدة…
مشاعر الانتقام التي يحملها الأطفال والشباب بسبب العنف التعسفي والإهانات التي تعرض لها الجميع دون تفرقة بين صغير وكبير ونساء وأطفال على يد قوات الأمن خلال عملية الدهم التي دخل خلال الجنود المنازل أحذتهم لتعقب الإرهابيين في قرية تلك السيدة.
الضغينة المتراكمة مع كل مرة تسرد فيه ولا تنسى المشاهد التي أجبرت فيها قوات الأمن التي داهمت القرية فجأة في عتمة الليل لتقول لسكانها “إنكم تأوون إرهابيين في قريتكم” لتجبر الجميع على الهجرة الفورية حتى دون أن تعطيهم فرصة ولو لساعة واحدة لجمع أمتعتهم.
عندما نضيف كل هذه الأحداث التي كانت تقع بين الحين والآخر إلى الحظر الذي كان مفروضا على اللغة الأم (الكردية) والهوية والثقافة التي عجزوا عن التعبير عنهما، بل وتعرضوا للإهانة بسببهما؛ نجد أن الأجواء كانت مواتية جدا لإذكاء نيران الإرهاب باستمرار، وهي الظروف التي كانت توفر أهم مادة أساسية للراغبين في الاستثمار في العمليات الإرهابية.
لقد كان هناك منظمة إرهابية مبادرة وجاهزة لأداء هذه المهمة بالدعم الدولي الذي تحظى به، وبالفعل فقد أحسنت تلك المنظمة استغلال هذه الظروف من أجل مصلحتها. ولقد استغرق إدراك جهاز الدولة هذا الأمر وإقدامه على اتخاذ التدابير اللازمة مرور العديد من السنوات والأجيال، وهو الوقت الذي استغلته المنظمة لدعم استثماراتها عن طريق وضع آليات قادرة على إنتاج وإعادة إنتاج الموارد البشرية باستمرار، كما عملت على وضع الأيدولوجيات التي ستتبناها أجيال وراء أجيال.
ولقد شهدت تلك الفترة إقدام الحكومة على محاولة سد طرق العودة من خلال الإقدام على عملية نقد ذاتي وإعادة تقييم محتملة، لتكون بذلك قد قدمت دعما استراتيجيا كبيرا لتلك المنظمة. كما حظرت الدولة في التسعينيات تلقي الأجيال الجديدة تعليما دينيا في الوقت الذي دخلت فيه في أجواء انقلاب 28 فبراير/شباط، لتجني بذلك على الأجيال الكردية الجديدة وتجعلهم نماذج لأشخاص عنصريين لا يعتنقون دينا ولا يحملون قيما، بالضبط كما تريد بي كا كا.
لا شك أننا بعيدون اليوم كل البعد عن هذه الأجواء التي ترتكب فيها الدولة كل هذه الأخطاء الفادحة ضد الأكراد؛ إذ لا يمكن أبدا تحريض أي شاب كردي من خلال مشاعر الغضب والانتقام والضغينة التي تسببت بها أخطاء الدولة.
لكن الشباب لا يزالون يتعرضون منذ ثلاثة أجيال لعملية قولبة أيدولوجية محددة المعالم وسط تلك الأجواء القومية-العنصرية التلذذية. وحتى إن لم يكن للدولة ذنب في ذلك، فإن عددا كبيرا من الشباب الكردي صار يحمل مشاعر قومية عنصرية، هذا بالرغم من أن القومية العنصرية أو الإقليمية تعتبر عنصرا مشروعا في السياسة ما لم تقدم على أعمال العنف. كما أنه ليس من حق أحد التدخل والاعتراض على رغبة الآخرين في التعبير عن أنفسهم على المستوى السياسي بالهوية التي يريدون. لكن المشكلة هنا بالنسبة لتركيا هي اعتبار هذه القومية العنصرية التعبير عن نفسها من خلال الإرهاب “حق ديمقراطي” خاص بها. بيد أننا لا يمكن أن نعتبر العنف حق لأي عنصر ديمقراطي في أي مكان وزمان.
يمكننا القول إن كل مشاكل الإرهاب الناجمة عن الممارسات الخاطئة للحكومة التركية قد تم حلها، غير أن استمرار الإرهاب بالرغم من هذا الأمر لهو موضوع ينبغي لمواطنينا الأكراد على وجه الخصوص التركيز والبحث عن سببه الأساسي.
وللأسف فإن هناك رغبة في استغلال الأكراد كورقة رابحة في كل الألاعيب الدولية القذرة التي يراد لعبها في المنطقة منذ 50 عاما. ونشعر في هذا المقام بشكل أكبر بالبعد الإجرامي للأخطاء التي ارتكبتها الدولة التركية في الماضي وكأنها تساهم في إذكاء نيران هذه الألاعيب بالرغم من علمها بها.
وأما الآن فنرى بوضوح كبير أن استمرار إرهاب بي كا كا، الذي يشغل تركيا منذ سنوات، ليس مرتبطا وحسب بسياسة الدولة؛ إذ إن الولايات المتحدة تدعم تلك المنظمة الإرهابية بقوتها العظمى ومساعدات السلاح الضخمة ودعمها الاستخباراتي واللوجستي واستشاراتها السياسية الدولية. كما أننا نرى بشكل أوضح اليوم أن المنظمة الإرهابية التي عجزت الدولة عن مواجهتها لسنوات لا تعتبر مشكلة نابعة من الديناميات الداخلية لتركيا أو سوسيولوجيتها أو حتى قصر نظرها السياسي؛ إذ حتى لو قدمت الدولة التركية اليوم أكبر نماذج البصرية، فإن هناك دولة عظمى لا تتورع أبدا عن مواصلة دعم تلك المنظمة.
إذن، هل تقدّم الولايات المتحدة هذا الدعم لبي كا كا بسبب حبها للأكراد؟ هل تفعل ذلك لتساعد الأكراد المساكين بصفتهم القومية الوحيدة التي بقيت دون دولة لهم في المنطقة؟ للأسف هناك من يؤمن بأن واشنطن تقدم هذا الدعم بلا مقابل وبأن هناك فوائد تقدمها الولايات المتحدة للأكراد حتى لو كان ذلك على حساب ظلم شعوب أخرى.
وإنني لأشكّ في عقلية وعقيدة وانتماء أي كردي يفكر بهذه الطريقة؛ إذ إن الولايات المتحدة لا يمكن أن ترحم أو تعامل بإنسانية وتساعد أي شعب من شعوب المنطقة، فهي لا تفعل شيء سوى أنها تستغل الشعب، وهي العادة التي أصبحنا نألفها ونعرفها كما نعرف أبناءنا. فهي تظلم أناسا آخرين بينما تقوم بذلك، ثم ترجع لتظلم الشعوب التي استغلتها لظلم شعوب أخرى، وهكذا دواليك.
إن من تكافحه تركيا منذ سنوات ليس بي كا كا، بل الولايات المتحدة التي تدعمه. ولهذا، فليس لهذه المسألة علاقة لا بالقضية الكردية ولا بالديناميات الداخلية لتركيا.
وللأسف فإن المخاطر المتمخضة عن هذه الوضعية هي التي حالت دون ترسيخ جذور مبادرة الحل التي أطلقتها تركيا منذ عام 2002 وأقدمت خلالها على اتخاذ أكثر الخطوات الديمقراطية راديكالية فيما يخص الأكراد. ذلك أنه حتى مبادرة التحول الديمقراطي تتعرض للفشل بسبب هذه المخاطر ذات الأبعاد الدولية التي تستغل هذه المبادرة لتنفيذ استراتيجياتها، أكثر من أن يكون ذلك بسبب المواطنين الأكراد العاديين أنفسهم.
ولهذا أدعو الجميع لألّا يحاولوا تأنيب تركيا واتهامها بأنها ليست أكثر ديمقراطية في ظل هذه التهديدات الصريحة، وألا يظنواأنهم أذكياء وأن تركيا دولة بلهاء.
.