كان هناك من حاولوا تحويل الربيع العربي إلى شتاء، لكن يبدو أنهم لم يضعوا في الحسبان أن قدوم الربيع هو نتيجة حتمية بنهاية حتى أكثر فصول الشتاء قسوة. لقد تغافلوا عن آمال الشعوب وتوقعاتهم المتراكمة على مدار مائة عام، فسرقوا ثورتهم، وحاولوا تدمير آمالهم، قتلوا شبابهم، وسعوا لتعذيب من بقي منهم في السجون، كما نفوا آخرين كثر خارج أوطانهم. لكن إلى أي مدى يمكن قمع مطالب الشعوب من أجل الحرية والشرف ولقمة العيش؟
ثمة نشاط اجتماعي يغلي على أشده في العالم العربي؛ إذ إن ذلك المجتمع أصبح متكاملا مع العالم ويطالب بحياة إنسانية بعدما مل يعد قادرا على تحمل المزيد من الذل والهوان. فمن يمكنه الوقوف أمام إنبات البذور الطازجة التي تنتظر أن تتفتح في أعماق المجتمع؟ فلا ريب أن هذا الربيع سيأتي عاجلا أو آجلا مهما أُجّل.
إننا نرى أن السيسي يشكل عائقا أمام تطور بلده ووصولها للمكانة التي تستحقها على مسرح التاريخ ومطالب الشعب المصري من أجل العيش بكرامة، كما أنه يستخدم القوة في محاولة لسجن ثورة المصريين المسلوبة. وبغض النظر عن من يدعمه وكيف يدعمه، فإنه لا يمكن أن يستمر ديكتاتور يسير بهذه الطريقة عكس التاريخ والمجتمع والعقل والضمير لمزيد من الوقت. وإن المأزق الذي وضع مصر فيه خلال السنوات الست الماضية أفضى إلى اتحاد كل أطياف الشعب المصري للتمرد ضده، كما فشل هذا المأزق في الحيلولة دون تجدد دعوات الربيع المؤجل بسبب الممارسات القمعية.
لقد دخلت مظاهرات الشعب المصري المناهضة للسيسي والداعية له للتنحي مرحلة جديدة أمس الجمعة. والمثير في الأمر أن محاولات نظام السيسي لإحباط هذه المظاهرات كانت أكبر من استعدادت هذه المظاهرات التي أعلنت قبلها بأيام؛ إذ اعتقلت قوات الأمن ألفي شخص على الأقل كان من بينهم أكاديميون وصحفيون وكتاب وأشخاص من كل الأطياف السياسية، وذلك خوفا من احتمالية أن يكونوا سينظمون المظاهرات أو سينضمون إليها. وكان من بين أبرز من اعتقلوا هو الدكتور حسن نافعة أستاذ السياسة بجامعة القاهرة ذا الميول الليبرالية – العلمانية والذي كان من بين الذين دعموا انقلاب السيسي ضد الرئيس الراحل محمد مرسي. وكانت حجة اعتقال نافعة هي تغريدة نشرها عبر تويتر قال فيه:
” أرجو أن يفهم كلامي على وجهه الصحيح, فليس لدي شك في أن استمرار حكم السيسي المطلق سيقود إلى كارثة، وأن مصلحة مصر تتطلب رحيله اليوم قبل الغد، لكنه لن يرحل إلا بضغط شعبي من الشارع, وعلينا في الوقت نفسه اختيار أقل الطرق كلفة لضمان انتقال السلطة إلى أيد أمينة، وأن نتجنب سيناريو الفوضى”.
إن وصول حتى أنصار السيسي إلى هذه النقطة يبرهن على أن استعداد الشخصية الانقلابية لأن تتخلى عن كل حلفائها في نهاية الطريق. ولقد عبر نافعة عن الحاجة مجددا لمصالحة مجتمعية في مصر، مشيرا إلى أن رحيل السيسي لن يكون ممكنا سوى من خلال حركة ودعم شعبي.
ثمة موضوع مصالحة مجتمعية مثير أخرجته موجة الربيع الجديد في مصر، ألا وهو شخصية محمد علي الذي تحول إلى ظاهرة سوسيولوجية تستحدق الدراسة من كل الجهات، وهو ما جعله نقطة اتفاق ومصالحة لم ير مثيلها أبدا في شوارع مصر.
لقد كسب محمد علي تعاطف المصريين من كل الفئات والأطياف بقيادته حركة عصيان ضد السيسي، والملفت هو أنه لا يحمل أي رسالة أيدولوجية أو دينية. يشاهد ملايين المصريين مقاطعه المصورة التي يبثها عبر الإنترنت، لينزل الناس إلى الشوارع في الأوقات التي يخبرهم بها. وإن أمرا كهذا ليس أمرا سهل التخطيط والتنفيذ لهذه الدرجة. فنحن أمام أزمة حقيقية، أزمة ترسم ملامح الشخصية الكارزمية التي تحتاج إليها.
إن الناس يصورون الكاريزما اللازمة في شخصية مناسبة يمكنها إنقاذهم من هذه الأزمة، وذلك على مستوى التوافق الاجتماعي. وفي الواقع فإن مصدر قوة شخصية محمد علي ليست هو نفسه وحسب، بل إنها نابعة كذلك من عمق الأزمة في مصر وفشل الخيارات الحالية لتقديم حل مناسب أكثر توافقا مع الوضع الراهن.
وبالمناسبة فإن التدابير التي اتخذها السيسي لمواجهة المظاهرات ليست فقط عبارة عن حملة الاعتقالات، بل إن من بين سائر التدابير الأخرى نذكر حشد كل موظفي الدولة ومنحهم علاوة شهرية بقيمة 100 جنيه مع وجبة طعام لكي يملأون الحافلات وينزلون إلى الميادين للمشاركة في الفعاليات المضادة الداعمة للسيسي، وكذلك نذكر إجراء تفريق أي حشد ينوي التظاهر بشكل مسبق كتدبير احترازي.
وبالرغم من أن أكبر تخوف يحمله الجميع الآن هو تحول هذه التدابير إلى مجزرة جماعية كما حدث في ميدان رابعة العدوية يوم 14 أغسطس/آب 2013ـ لكن يبدو أن المتظاهرين نزلوا إلى الميادين وهم غير آبهين حتى بهذه الاحتمالية.