لقد استحقت عملية نبع السلام التي نفذتها تركيا أن يسجلها التاريخ بوصفها نقطة تحول فارقة على اعتبار نتائجها. فنقطة التحول هذه استطاعت قلب كل التوازنات الدولية في المنطقة وكذلك كامل نظام العلاقات ضمن النظام الدولي رأسًا على عقب.
ولو نظرنا فقط إلى اعترافات المسؤولين الإسرائيليين التي قالوا فيها “لقد أفشلت هذه العملية في ليلة وضحاها المخططات التي وضعتها إسرائيل على مدار 60 عامًا”، سنرى بما لا يدع مجالًا للشك كيف نجحت هذه العملية في هدم وضع كان راهنًا.
إنّ هذه العبارات لا تعترف فقط بأنّ إسرائيل تأتي في مقدمة البلدان التي تقف وراء الخرائط الجديدة التي يحاولون رسمها في المنطقة منذ 60 عامًا، لا سيما عندما يتعلق الأمر بحالة الاضطراب التي أطلق عليها اسم قضية الأكراد، بل إنها برهنت – في الوقت ذاته – على أنّ الولايات المتحدة وكلّ دول الاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، وقفت خلف المخطط الإسرائيلي لتأجيج نيران حالة الاضطراب هذه.
ولم يعد يخفى على أحد الدعم الذي تتلقاه منظمة بي كا كا الإرهابية من قوة المطرقة التي تمركزت في شمال العراق على الحدود التركية لسنوات بموافقة من أنقرة كذلك، وبالرغم من ذلك كان السياسيون في ذلك الوقت مضطرين للتغاضي عن الدعم الذي تقدمه واشنطن للإرهاب الذي يهدد بلدانهم. واليوم صار من الممكن أن نفهم بشكل أفضل من كان يرتبط بماذا وكيف لكي ينفذ مخططا كبيرا كهذا.
لقد كانت عقلية الدولة التي سعت حقا لاعتبار الأكراد يشكلون قضية بالنسبة لتركيا وتصويرهم أمام الجميع بهذا الشكل تبدو وكأنها جزء من الحدث وتؤدي ما يقع على عاتقها من مهام. ولقد كانت الغالبية العظمى من أبناء الأجيال الجديدة من الأكراد قد سُلخت عن هذا الوطن حتى طُرح سؤال حول كيف يمكن للأكراد، الذين يعتبرون عنصرا أصيلا من عناصر التركيبة السكانية في تركيا، أن يكونوا مشكلة تعاني منها تركيا؟ وكان الأكراد، الذين تلقوا صفعة من الدولة التركية، يحتمون بالرحمة الخبيثة والمزيفة التي كانت تظهرها لهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية وبالتالي إسرائيل. كان يجب أن تلعَب هذه الأدوار لكي ينجز ذلك المخطط الكبير الذي يحاك منذ 60 عاما.
لم تبدأ تركيا – في الواقع – يإفشال هذه المخطط بالعملية العسكرية الأخيرة؛ إذ كانت قد بدأت إفشالها عندما شرعت في حل القضية الكردية، بدأت إفساد هذه اللعبة بشكل كبير عندما حل القضية الكردية وألغت الحظر الذي كان مفروضا على التحدث والنشر والتعليم باللغة الكردية واعتزاز الأكراد بهويتهم وعندما أشعرتهم بأنهم جزء أصيل من هذا الوطن.
ولكي ينجح مخططهم كان يجب أن يور الأكراد في تركيا على أنهم يمثلون مشكلة ويستمر إنكار الدولة وظلمها لهم. لكن حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان نجح في تغيير هذه المعادلة بالكامل ليفسد عليهم مخططاتهم كافة.
ولقد كانت عقلية الدولة العلمانية الأمنية القديمة وكذلك تنظيم غولن الإرهابي يؤديان ما يقع على عاتقهما من مسؤوليات على أكمل وجه لتنفيذ هذا المخطط. ولهذا فما إن ظهرت مبادرة حزب العدالة والتنمية لحل القضية الكردية وفهمها الجميع حتى واجهت العديد من الصعاب والموانع لسنوات. ولقد بدأنا مؤخرا نرى بوضوح إلى أين تمتد خيوط تلك الشبكات التي أخذوا ينسجونها على مدار 60 عاما. كان يجب أن يتلقى الأكراد صفعات قوية لكي ينجح المخطط الذي وضعته إسرائيل، أي لكي تُمد يد الرحمة والشفقة إلى الأكراد. وكان – في الواقع – من وجّه الصفعات ومن مد يد الشفقة هو الطرف ذاته.
وبم يمكن أن نفسر حديث الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بل وحتى – وبطريقة غريبة – دول عربية بعينها في لحظة ما عن “الإشفاق على الأكراد” خلال العملية التي نفذتها تركيا ضد الإرهابيين في وقت لم تحرك فيه تلك البلدان ساكنا بينما كان مليون مواطن سوري يقتلون بأبشع الطرق وتهدم البيوت فوق رؤوسهم؟ فهل يشير هذا لشيء آخر سوى أنهم يلعبون جميعا دورا في المخطط ذاته؟
وفي الواقع لو كان الإشفاق على الأكراد شعورا حقيقا فإن هذا لا يحزننا، بل يسعدنا. ويا ليتهم أظهروا هذه الشفقة لكل من تعرض للظلم. لكنهم لا يظهرون هذه الشفقة لمئات المدنيين الذين يموتون كل يوم، لا سيما مئات الأطفال الذين يفقدون حياتهم وهم يعذبون بفعل الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية، فيما يظهرونها لمسلحي تنظيم ب ي د الإرهابي بنعتهم بـ”الأكراد”. أولا ينتبه الأكراد لهذا قبل أي طرف آخر؟ وهل ظنوا أن الأكراد حمقى؟
نرى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تعتبر عناصر ب ي د أكرادا وتسعى لحمايتهم، فلماذا لا تفعل الأمر نفسه إزاء 350 ألف كردي اضطروا للهرب من ظلم ب ي د نفسه إلى تركيا ومثلهم في العدد من الأكراد الذين فروا هاربين إلى شمال العراق؟
وهناك حقيقة أخرى مفادها أن سيطرة ب ي د في المنطقة انتهت في لحظة عندما نفذت تركيا عملية نبع السلام، فالتنظيم فشل في الصمود هناك بالرغم من الدعم الكبير الذي حصل عليه من الولايات المتحدة بالسلاح والذخيرة والمعدات اللوجستية والتكتيكات ودعم الرأي العام الضخم من الدول الأوروبية والعربية. بيد أن التنظيم لو كان له كيان حقيقي وشرعي في المنطقة ما كانت تركيا لتستطيع التخلص منه بهذه الطريقة. ولهذا كان من الواضح أن هناك من حاول نشر هذه العناصر الإرهابية في تلك المنطقة بالقوة.
هذا فضلا عن أن مفاوضات وقف العملية العسكرية لم تُجْر مع هؤلاء الإرهابيين، بل أجريت مع من منحهم السلاح وضمن تمركزهم في هذه المنطقة. أي أنكم عندما تحملون سلاح غيركم تصبحون أداة لمخططهم، وعندما يأتي اليوم الذي يتغير فيه هذا المخطط، تصبح هذه الآلة لا فائدة منها.