إن تركيا عبر عملية نبع السلام التي شنّتها لم تنجح في القضاء على التهديد الفعلي الذي يواجهها فحسب، بل إنها أحبطت كلّ موازين مشروع “الوضع الراهن” الذي كان مفروضًا على العالم منذ وقت طويل. من المعلوم، أنّ هذا الوضع الراهن كان بخطاب رسمي أو مرئي مختلف، وبممارسة فعلية مختلفة في المقابل.
وإن أفضل تعبير لتلخيص ماهية هذا الوضع الرهن، جاء على لسان مسؤول إسرائيلي؛ حيث قال بأن هذا الوضع سيضع مصير المنطقة تحت خدمة استراتيجية إسرائيل لمدة طويلة الأجل تمتد لـ 60 عامًا.
الصورة الظاهرة توحي بان الولايات المتحدة تكافح ضد الإرهاب، وتجلب الديمقراطية للمنطقة، وتعمل على القضاء على التهديدات التي تواجهها، ودائمًا ينبغي على الرأي العام في العالم أن يرى الولايات المتحدة محقة ويعذرها بقوة بكل ما تفعله منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
وبهذه المعذرة القوية من قبل العالم قام الولايات المتحدة باحتلال أفغانستان، واحتلت العراق بذريعة أن صدام يمتلك أسلحة دمار شامل. ومع كل هذه التدخلات في المنطقة تحت معذرات الولايات المتحدة التي لا تنتهي، لم يظهر هناك صوت عاقل باسم الولايات المتحدة يحاسبها على ما مضى حتى الآن.
إننا نقول منذ البداية، بأنّ هذا الاستعراض للقوى الذي تقوم به الولايات المتحدة عبر تدخلاتها في المنطقة ليس له نتيجة إلا استهلاك قوة وسلطة الولايات المتحدة. ما الذي جنته الولايات المتحدة من احتلالها للعرق، سوى أنها فقدت 5 آلاف من جنودها، ودفنت معهم كلّ القيم التي تجعل منها دولة قوية. وإنها عبر كل تدخلاتها في الشرق تحولت إلى دولة لتحالفات الكراهية بين الناس.
إن استعراض القوى حينما يكون، فإنما يهدف إما إلى ترويع الناس وإرغامهم على الطاعة، أو إلى تعزيز القوة ودعوة الناس لاحترام ذلك حينما يتمّ بالطبع في الوقت والمكان المناسبين. لكن اليوم لم يعد هناك تأثير لاستعراض القوى المستهلكة من قبل الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، سواء من أجل ترويع الناس أو لدفعهم للاحترام. لأن الولايات المتحدة ليست قادرة على حساب وجودها في الشرق الأوسط بناء على مصالحها حتى الآن، حيث إن كل تواجدها مكرّس لوجود إسرائيل.
ومن اللافت أن أكثر رئيس أمريكي استطاع رؤية بذلك بشكل جيد بين رؤساء الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، كان الرئيس دونالد ترامب. إن عقلانيته البحتة البراغماتية أقرب إلى تقييم جميع سياسات الشرق الأوسط من حيث المصالح الحقيقية للولايات المتحدة. لقد طُرح هذا السؤال مؤخرًا أمام الصحافة بشكل علني واعترف بأن وجود بلاده بالكامل في الشرق الأوسط حتى الآن لم يجلب سوى الأذى للولايات المتحدة. هذا الاعتراف ليس بالشيء السهل، إلا أنه ليس للولايات المتحدة سبيل آخر سوى الاعتراف كي تستعيد على الجانب الآخر قوتها.
في الواقع إنّ تركيا عبر عمليتها نبع السلام أعطت فرصة للجميع على رأسهم الولايات المتحدة، أن يعيد النظر من جديد في موقعه على الأرض. إنّ العملية العسكرية وما تبعها من خطوات دبلوماسية أظهرت بوضوح أنّ تركيا لعبت دورًا هامًّا ولم تلعب على وتر جلب الديمقراطية للعالم كما فعل البعض.
إن تركيا ألزمت الممارسات على الأرض أن تكون متناسقة مع الخطابات الرسمية. إنها دفعت الناتو إلى مبدئه الرئيسي “كلنا واحد”. وإنّ هذا المبدأ يعني أنّ التهديد القائم تجاه دولة ما في الحلف يجب اعتباره تهديدًا لباقي أعضائه. لا أن يقوموا بالتحالف مع تنظيم إرهابي يعتبر تهديدًا لتركيا. عليهم أن يعلموا هذا، وسيعلمون.
تحاول تركيا جاهدة أن تبيّن لهم أنّ علاقتهم مع تنظيم إرهابي لا تستند إلى أي مبدأ أخلاقي. ولقد شرحت لهم هذا على مدار سنوات، لكنهم لم يفهموا، إلا أن إظهارها قوتها فعليًّا نجح في إقناعهم أخيرًا. ولذلك يحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يشرح للجميع تناقضات هذا العالم وانعدام العدالة فيه وسياسة الوجهين العالمية؛ عبر مبدأ “العالم أكبر من خمسة”. وكي يفهموا شيئًا تحت سقف هذا المبدأ، لا بدّ لهم أن يروا القوة.
بينما يحاوره المسؤولون الروس، كذلك يقوم المسؤولون الأمريكيون باستقبال ذلك الإرهابيّ الذي دبّر ونفّذ عملية إرهابية بالأطنان ضدّ تركيا، راح ضحيتها مئات الأبرياء، وحرّض ضد تركيا، كما أنه مطلوب للسلطات التركية واسمه على قائمة النشرة الحمراء.
إن شخصًا كذلك الإرهابيّ المدعو بـ “مظلوم” الذي هو اسمه التنظيميّ، بينما هو معروف بسيرته الذاتية في منظمة بي كا كا، حيث يعتبر من ضمن الأسماء البارزة فيها؛ يتم دعوته للولايات المتحدة كممثل عن تنظيم “ب ي د/ي ب ك، إن ذلك في الواقع لأكبر دليل صارخ على العلاقة القائمة بين التنظيم وبين منظمة بي كا كا الإرهابية.
لقد باتت هذه العلاقة المنحرفة أمرًا طبيعيًّا لدى دول حلف الناتو فضلًا عن المحافل الأخرى. نحن لا نتحدث عن شيء تخميني ممكن أن يحدث، بل هو واقع فعلًا.
إن إقدام تركيا الواضح ما قبل وما بعد عملية السلام، أظهر للعالم بشكل واضح للغاية أن هذه العلاقة التي باتت طبيعية ما هي إلا انحراف. ولم يعد من الممكن لأحد بعد ذلك أن يدخل في علاقات منحرفة مشبوهة لن يمكنه الدفاع عنها لاحقًا.
من أيّ الجهات شئتم انظروا، ستجدون في النهاية أنّ تركيا عبر هذه الأحداث تساهم بشكل حقيقي في توفير نظام عالميّ أكثر ديمقراطية، وأكثر قوة من حيث المشروعية.
.
بواسطة/ ياسين اكتاي