لن ينسى الأتراك بسهولة تواريخ السابع والسابع عشر والثاني والعشرين من شهر تشرين الأول الحالي. الأول هو انطلاق عمليتهم العسكرية “نبع السلام ” السورية والثاني هو تاريخ الاتفاق التركي الأميركي على إخراج “قسد” من منطقة تل أبيض ورأس العين. أما الثالث فهو يوم الاتفاقية التركية الروسية على إنهاء العملية وفتح الطريق أمام حالة ميدانية وسياسية جديدة في الشمال السوري.
أنقرة اليوم تلعب أوراقها داخل المد والجزر السوري بطريقة جديدة فرضتها تطورات المشهد والمتغيرات الكثيرة هناك. هي تفاوض واشنطن وموسكو على التموضع الجديد لكنها تريد معرفة شكل الخارطة الميدانية والسياسية في سوريا المستقبل التي يفكران بها. في العلن هي تفاهمات أمنية سياسية ثنائية تهدف لابعاد وحدات الحماية ومجموعات حزب الاتحاد الديمقراطي عن مناطق الحدود التركية السورية، لكنها في العمق هي اتفاقيات الترويكا التركية الروسية والأميركية على حساب الكثير من اللاعبين المحليين والإقليميين في الملف السوري.
شعار المرحلة المقبلة في مسار الأزمة السورية هو التسويات. التسويات بدأت شفهية بطابع سياسي، ثم أعقبها تسويات أمنية على الورق وبعدها تكون عملية تدوين التسويات السياسية وتنفيذها. اتفاقية أنقرة التركية الأميركية هي خطة تسوية أمنية ميدانية، وكذلك الاتفاقية التركية الروسية التي وقعت بعد 5 أيام في سوتشي. لكن الأهداف والأبعاد الحقيقية للاتفاقيتين هي سياسية بامتياز.
سارعت قيادة حزب العدالة والتنمية إلى إدخال تعديل جذري على سياستها السورية والالتفاف على مواقفها وطروحاتها السابقة وخلال أسابيع فقط بعدما شعرت بحجم الخطر المهدد وثقل الاستهداف الذي يعده البعض لها عربياً وأوروبياً وإسرائيلياً . وهي قررت أن تفعل ذلك مع الكبار مباشرة.
في مطلب المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا بطول 440 كلم وعمق 30 كلم ساهمت واشنطن بتسهيل التمدد التركي حوالي 120 كلم دون أن ينجح الرئيس الأميركي في إقناع أنقرة بالجلوس والحوار مع “قسد” كما كان يمني النفس. لكن روسيا كانت أكثر تشددا في رفض منح أنقرة السيطرة على المساحة المتبقية بحدود 320 كلم. هي بدلا من ذلك عرضت مساومات ميدانية سياسية متداخلة ومتشابكة تفرض التواصل والحوار بين أنقرة ودمشق عبر العودة إلى اتفاقية أضنه.
موسكو ضمنت لتركيا تعطيل إقامة الكيان الكردي على حدودها لكنها لم تضمن دعم إنشاء المنطقة الآمنة أو عرقلة أي مشروع أميركي ما زال قائما في العمق السوري حول جائزة الترضية الكردية. موسكو تدرك جيدا مدى حاجتها لتركيا إلى جانبها في المنطقة لذلك هي لا تريد إغضابها في سوريا وأكثر ما قد تطالب أنقرة به هو إعادة تلميع وتحديث اتفاقية أضنة الموقعة بين تركيا وسوريا عام 1998، ويبدو أن هذا هو الذي حصل في قمة سوتشي الأخيرة دون أن يتم كشف النقاب عن تفاصيله بعد.
واشنطن التي قررت إطلاق يد روسيا في سوريا تتطلع من خلال سلة الاتفاقات الجديدة التاكد من إضعاف إيران في سوريا وحماية أمن إسرائيل في الخاصرة السورية وعدم غبن الحليف المحلي الكردي في التسويات.
أنقرة أيضا قبلت كما يبدو أن فكرة المنطقة الأمنة لا يمكن أن تتم دون تفاهمات تسبق حول التسويات السياسية في سوريا وأن ما ستحصل عليه في شمال البلاد لن يكون أكثر من ضمانة بعيدة المدى بعدم لعب ورقة الكيان الكردي على حدودها الجنوبية وقبول موسكو لعدم التمسك بنظام الأسد خلال بحث المرحلة الانتقالية في البلاد.
أما موسكو التي خرجت المنتصر الأول فهي وعلى ما يبدو ستذهب بمنحى منح واشنطن ما تريده حول إضعاف النفوذ الإيراني في سوريا لأن ذلك يخدم مصالحها وحساباتها ولأن محاولة هيمنتها على الملف السوري لن تنفعها دون تفاهمات مع دول الجوار التي تمسك أميركا بالكثير من الثقل الوازن فيها وحيث هي قادرة على تضييق الخناق إقليميا على موسكو ومصالحها في إسرائيل والأردن والعراق.
كل ما حصدته طهران حتى الآن من التفاهمات الجديدة هو إعلانها أن الاتفاق الروسي – التركي فرصة لحوار بين أنقرة ودمشق. هي نسيت بقاء أميركا في المشهد كما يبدو. الذي قد تقبل أنقرة به أيضا المساومة مع واشنطن وموسكو على النفوذ الإيراني عبر تشكيل آلية جديدة في الملف تضم واشنطن وموسكو وأنقرة دون التخلي عن آلية الأستانة بل الاكتفاء بإضعافها وتحييدها إلى حين أن تحسم أميركا موقفها حيال السياسة الايرانية الاقليمية.
حسابات الورقة والقلم تقول إنه بين الرابحين أيضا من قرأ المشهد بواقعية ومنطقية ووقف إلى جانب تركيا في خطتها العسكرية والسياسية الأخيرة وابتعد عن تهديدات وتصعيد الجامعة العربية والمجموعة الأوروبية ضد أنقرة.
من خيبت تركيا آمالهم لم يتراجعوا طبعا فهناك الكونغرس الأميركي المراهن على إلهام أحمد الرئيسة المشتركة لمجلس سوريا الديمقراطية وهناك القاهرة التي تستيضف شريك أحمد في القيادة رياض درار، وكذلك هيئة الأركان الروسية التي استمعت إلى ما يريده “مظلوم كوباني” عبر حلقة نقاش متلفزة عل وعسى.
تمكنت أنقرة من إزالة الجمود وحالة المماطلة في التعامل مع الملف السوري وهي نجحت بتحركها العسكري والدبلوماسي الأخير في فرض الكثير مما تريده وتقوله على الجانبين الأميركي والروسي وإغضاب المجموعتين العربية والأوروبية أكثر فأكثر عبر تهميش دورهما ونفوذهما في سوريا، لكن الضغوطات والسيناريوهات المفاجئة لم تنته بعد بالنسبة لتركيا. التفاهمات الثلاثية في شمال سوريا ستبعد وحدات الحماية عن المنطقة إلى العمق السوري لكنها ستفتح الطريق بالمقابل أمام تقدم وانتشار قوات النظام أولا وهي التي قد تطالب تركيا بعدم التدخل بما سيجري في العمق السوري ثانيا، وقد يدفعها للقبول بصيغة أميركية تركية بديلة عن خطة المنطقة الآمنة ثالثا.
ثم هناك محاولات بعض العواصم العربية والأوروبية للانتقام من تركيا لن تتوقف وربما هي قد تتحول إلى مواجهة مفتوحة تصل إلى ملفات سياسية واقتصادية وأمنية ثنائية وإقليمية عديدة.