بعد أشهر من المطالبات بالإصلاح والضغط السياسي، قطعت تركيا علاقاتها مع النظام السوري وسحبت سفيرها من دمشق في آذار/ مارس 2012. ومنذ ذلك الوقت، تعتبره أنقرة نظاماً غير شرعي، ولا تقيم معه علاقات دبلوماسية أو سياسية رفيعة المستوى، بل وقفت في الطرف الآخر تماماً مقدمة مختلف أنواع الدعم للمعارضة السورية التي باتت محسوبة عليها في تيارها الأغلب.
ومع تعديل سياستها بخصوص سوريا بعد التدخل الروسي المباشر وأزمة إسقاط المقاتلة في 2015، ثم عملياتها العسكرية في الشمال السوري ابتداءً من صيف 2016، تتواصل تركيا مع النظام بطريقة غير مباشرة من خلال الروس وبدرجة أقل الإيرانيين.
إلا أن تطورات السنوات القليلة الأخيرة، وخصوصاً ما يتعلق بالمشروع الانفصالي بقيادة الامتدادات السورية لحزب العمال الكردستاني، والذي تعتبر تركيا مواجهته أولويتها في الملف السوري، تتعرض الأخيرة لضغوط متزايدة لفتح قنوات الاتصال مع النظام، وهو ضغط مزدوج من الداخل والخارج.
فإلى جانب المصلحة الروسية (وبشكل مشابه الإيرانية) الواضحة بفتح علاقات مباشرة بين دمشق وأنقرة، العاصمة الأخيرة تقريباً الداعمة للمعارضة السورية، ترى نسبة لا بأس بها من النخبة السياسية والإعلامية التركية، من أحزاب وسياسيين وباحثين، أن مصلحة بلادهم تتلاقى مع مصلحة الأسد في إفشال مشروع الانفصال أو التقسيم أو الإدارات الذاتية، وأن حديث حكومتهم عن وحدة الأراضي السورية يعني شيئاً واحداً ضرورياً للأمن القومي التركي، وهو الحديث المباشر مع النظام والتعاون معه.
ورغم ذلك، ما تزال الحكومة التركية رافضة لعلاقات رسمية ومباشرة مع النظام السوري، رغم أنها لا تنكر وجود تواصل متدني المستوى بينهما استخباراتياً وعسكرياً. ويبدو أن الدافع الأبرز لرفضها العلاقات المباشرة؛ أن ذلك قد يعرض عملياتها العسكرية وتواجد جنودها على الأراضي السورية لسؤال الشرعية واحتمالية المطالبة بالمغادرة. ذلك أن أحد أهم مسوغات العمليات التركية خارج الحدود هي “اضطرار” أنقرة لمواجهة المنظمات المصنفة على قوائمها للإرهاب في الداخل السوري، بسبب الفراغ الناشئ عن ضعف سيطرة الحكومة المركزية على كامل أراضيها.
بوتين، الذي يعمل بهدوء وتصميم على إعادة العلاقات بين الطرفين، أشار قبل أشهر إلى أن الوجود العسكري التركي على الأراضي السورية شرعي، ويأتي تحت إطار اتفاقية أضنة الموقعة بين البلدين عام 1998. فالاتفاقية التي ركزت على وقف دمشق دعمها واحتضانها لحزب العمال الكردستاني؛ تعطي لأنقرة حق “ملاحقة الإرهابيين” حتى عمق خمسة كيلومترات إن تقاعست الحكومة السورية عن ذلك واتخاذ “التادبير الأمنية إذا ما تعرض أمنها القومي للخطر”.
وقد نزلت تصريحات بوتين على أنقرة في حينه برداً وسلاماً لما تضفيه من شرعية إضافية، عدا عن مسوغات أنقرة التي تشمل القانون الدولي وحق الدفاع عن النفس ومكافحة الإرهاب. بيد أن دوافع بوتين لا تتعلق حصراً بإضفاء الشرعية على التحركات التركية العسكرية بطبيعة الحال، وإنما تسعى لاستثمار ذلك لفتح باب التعاون بين الطرفين تحت لافتة اتفاقية أضنة.
في الاتفاق التركي- الروسي الأخير في سوتشي بخصوص المنطقة الآمنة، وفي البند الرابع منه تحديداً، ثمة نص واضح يؤكد على “أهمية اتفاقية أضنة”، وكذلك على “سعي روسيا الاتحادية لتسهيل تطبيقها”، وهي إشارة تتخطى الغطاء السياسي للعمليات التركية إلى مستوى تفعيل الاتفاقية، وهو ما يحتاج بطبيعة الحال إلى طرفين في المعادلة.
حتى اللحظة، لا يبدو أن هناك تغيراً جوهرياً في موقف أنقرة من العلاقة مع النظام، فقد اعتبر وزير الخارجية التركي أن النظام السوري غير قادر حالياً على الإيفاء بالتزاماته المنصوص عليها في الاتفاقية، لكن أنقرة تدرك بالتأكيد جملة المتغيرات الموضوعية مؤخراً في الملف السوري.
فالنظام قد تخطى منذ مدة طويلة معضلة الشرعية التي لم تعد مطروحة كما في السابق على الساحة الدولية، بعد تركيز كل الأطراف على “مكافحة الإرهاب” عنواناً للملف السوري. وهو في تقدم مضطرد ميدانياً، بما في ذلك استفادته الواضحة من عملية نبع السلام التركية الأخيرة، ليعود إلى مناطق كان قد خرج منها قبل سنوات في الشمال السوري، فضلاً عن تهديداته المستمرة بخصوص إدلب، القلعة الأخيرة للمعارضة السورية.
أكثر من ذلك، فقد أتاح الاتفاق التركي- الروسي الأخير حيزاً من الاحتكاك والتنسيق غير المباشر بين أنقرة ودمشق، حيث ستسيّر الأولى دوريات مشتركة مع القوات الروسية حتى عمق 10 كلم من الحدود، بينما ستعمل قوات حرس الحدود التابعة للثانية مع الشرطة العسكرية الروسية لإبعاد قوات سوريا الديمقراطية حتى عمق 30 كلم من الحدود، في المناطق الواقعة شرق منطقة عملية نبع السلام وغربها.
ورغم أن الإشارة إلى حرس الحدود السوري تبدو رمزية وشكلية إلى حد كبير، إلا أن ذلك سيعني احتكاكاً أكبر بين القوات التركية والسورية، ولو نظرياً، بضمانات أو إدارة روسية، وهو ما تأمل موسكو من خلاله رفع مستوى التواصل والتنسيق بين الطرفين بالتدريج.
لا تصب عودة النظام، شكلياً أو عملياً، للشمال وخصوصاً المناطق الحدودية في مصلحة تركيا، وبالتالي لم يكن ذلك خيارها المفضل، على الأقل بسبب التعقيدات التي يضفيها على إمكانية تحقيق فكرة المنطقة الآمنة كما تريدها أنقرة، فضلاً عن احتمالات نكوصه عن الاتفاق وإعادته قسد قريباً من الحدود. إلا أن اضطرار تركيا للمفاضلة بين النظام ووحدات الحماية دفعها للخيار المنطقي بالنسبة لها وهو النظام، لا سيما وأنها لا تملك المسوغات السياسية والقانونية لرفض انتشار قواته على الأراضي السورية، فضلاً عن رغبتها في تجنب أي اشتباك ميداني قد يعقّد تفاهماتها مع موسكو.
في المحصلة، ما زالت أنقرة متحفظة على فتح علاقات مباشرة ورسمية مع النظام السوري، لكن المعطيات الميدانية والتطورات السياسية والضغوط الداخلية والخارجية عليها تدفعها بهذا الاتجاه. ويبدو أن أنقرة تدرك أن مآلات الأمور في نهاية المطاف ستصل إلى هذه النقطة، ولذلك فهي ترفع مستوى التواصل بشكل تدريجي وبطيء جداً كما يبدو، في محاولة لتأجيل الخطوة الأكبر لما بعد الحل السياسي الذي يمكن أن يرضي مختلف الأطراف بالحد الأدنى، ويمكن أن يشكل حالة استقرار في البلاد وبالتالي على حدودها وأمنها.
إلا أن ذلك أمر غير مقطوع به، لا سيما في ظل استمرار الضغوط الروسية التي تدعو كلَّ حين، وآخر إلى “مغادرة القوات الأجنبية المتواجدة على أراضي سوريا دون دعوة من حكومتها”، وبالتالي يمكن للوتيرة التركية البطيئة أن تتسارع أو تتسرَّع في أي وقت وتحت ضغط أي محطة فارقة في الميدان.
المثل يقول عدو عدوي صديقي. المفروض من تركيا ان يحسن العلاقات مع سوريا و العراق وايران ضد خونة الاسلام وجواسيس وكلاب الغرب وامريكا واسرائيل. الذين لايعرفون معنى المدنية والحضارة . انهم مثل الانسان القديم يفضلون العيش بالمذلة والخيانة بعيدا عن الحضارة في الجبال والمناطق الغيرملائمة للانسان.