لقد أظهر القراران الأخيران اللذان أصدرهما مجلس النواب الأمريكي ضد تركيا إلى أي مدى تعرضت السياسة الأمريكية لمرض خبيث ومميت. ذلك أن كلا القرارين يثبتان وجود رد فعل غاضب ومضر نابع من عقلية تأْسر السياسة الأمريكية وتعمل ضد مصالحها وتضر بالولايات المتحدة كلها.
لكن الأوراق التي يستخدمها الأمريكان بينما يعربون عن ردود أفعالهم تبرهن كذلك على أن القيم الأمريكية قابلة للمساومة عند الحاجة وأنها ليست سوى عبارة عن أدوات رخيصة بيد أصحابها. وإذا كانت واشنطن قادرة على استغلال هذه القيمة كأوراق رابحة في أي خلاف محتمل يحدث بينها وبين أي دولة أخرى، فإن التغاضي عن انتهاك هذه القيم في الأوقات العادية لا يحمل معنى سوى المشاركة في حالة فساد سياسي قذر.
إن رد الفعل الذي أظهره مجلس النواب الأمريكي موجه لعملية نبع السلام العسكرية التي نفذتها تركيا. وإذا ما طرحنا سؤالا بسيطا حول سبب رد الفعل هذا، فلن نجب جوابا شافيا سوى تعاون واشنطن مع التنظيمات الإرهابية وخيانتها لحلفائها وشراكتها في الجرائم التي أفضت لإراقة دماء الأبرياء من الأطفال والنساء والرجال في سوريا ومن قبلها في بقية دول الشرق الأوسط.
وحتى عندما أعلنت تركيا أنه لن تستطيع أن تتحمل لفترة أطول هذه الشراكة في الجريمة التي سقطت فيها الولايات المتحدة، أظهرت بذلك أن هناك ملفات ضخمة مليئة بالجرائم في هذه المناطق. لا تفعل الولايات المتحدة في سوريا أي شيء يخدم السلام والاستقرار والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل على العكس تماما، فإنها بوجودها في سوريا تخدم زعزعة استقرار المنطقة وانتهاك حقوق الإنسان وارتكاب المزيد من المجازر ضد المدنيين، لتجعل نفسها هدفا لكراهية شعوب المنطقة كافة. ولأن تركيا تدل الولايات المتحدة على طريق للنجاة من هذا الوجود الذي سيجعلها تخسر الكثير على المدى الطويل، فإن الشعب الأمريكي عليه أن يكون مدينا بالشكر لتركيا لما تفعله في هذا الصدد.
أؤمن بأن الشعب الأمريكي ما إن يطلع على الأحداث فإنه سيشعر بهذه الحاجة لشكر تركيا أكثر من أي وقت مضى، لكن السياسة الأمريكية تتعرض الآن للخطف والرهن على يد إسرائيل. فليس هناك حجة مقنعة للوجود الأمريكي في سوريا سوى سير واشنطن في عمى تام خلف السياسات التوسعية الغاشمة أو السياسيات الأمنية المريبة التي تنتهجها إسرائيل. فهذه الحجة يمكنها تحويل الولايات المتحدة إلى أكبر دولة مجرمة حرب في عصرنا، وبطبيعة الحالة فهذا لا يهم إسرائيل، لكنه يهم الشعب الأمريكي.
ولهذا الغرض يمكننا ترك الحديث عن قرار مجلس النواب الأمريكي بشأن فرض عقوبات على تركيا. وإن طرح واشنطن للنقاش ملفا أغلق قبل 104 أعوام بغرض الرد بالمثل على تركيا واعتبار هذا الملف مشروع قانون لإقرار المجزرة ضد الأرمن يبرهن على كيف يمكن للولايات المتحدة استغلال مسألة إنسانية حساسة مثل المجزرة في عملية ابتزاز قذرة. فالمجزرة الحقيقية ضد الأرمن يرتكبها مجلس النواب الأمريكي الآن بقراره هذا.
ما العدد المحتمل للأرمن الذي ماتوا في مجزرة مزعوم ارتكابها قبل 104 أعوام؟ فحتى أعداد الذين ماتوا بزعم الأرمن، الذين لا يحركهم اليوم سوى مشاعر الكراهية والانتقام، لا يفوق عدد المسلمين الذين قتلتهم الولايات المتحدة بتدخلاتها المتعنتة غير المفهومة في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين.
وهل الضمير الذي يقف متفرجا على ما يحدث من حالات قتل اليوم سيشعر بآلام حدثت قبل 104 أعوام؟ بأي علم تاريخي وضمير عادل وإدراك سيفهم ذلك؟
ولننحي المجازر التي ارتكبتها أمريكا ضد الهنود الحمر جانبا ونسأل: هل لا يزال لأمريكا وجه يجعلها تحمل زعما إنسانيا كهذا إزاء أي شعب من شعوب العالم؟
إن طرح زعم مذبحة الأرمن للنقاش أمام واقعة كهذه يقدم لنا فكرة أفضل حول حقيقة الأحداث التي وقعت قبل 104 أعوام. هذا فضلا عن أنها لا تستطيع أن تعلم أصل واقعة حدثت قبل 104 أعوام وصارت مسألة خلافية اليوم. بيد أن مناقشة مجلس النواب الأمريكي للواقعة بهذه الطريقة يظهر أنها صارت جزءا من صناعة يمكن أن نطلق عليها اسم صناعة المذابح، كما أنها تبرهن زيف كل الخطابات الإنسانية التي روجوا لها في هذا الصدد.
وأما أصل المسألة فهي الآلام المشتركة التي شعر بها الناس في ظل الحرب قبل 104 أعوام. فبقدر الأرمن الذين ماتوا مات مسلمون من الأتراك والأكراد والعرب. كما قتل أكثر من مليون تركي مسلم في البلقان بسبب جرائم القوات الغربية. وإن اختيار الأرمن من بين هؤلاء لإظهارهم وكأنهم هم وحدهم ضحايا المذابح ليس مرتبطا بمسألة أن الأرمن يسوقون لقضيتهم بنجاح، بل يثبت أن الأرمن يستغلون مرة أخرى كعصا لمعاقبة تركيا.
إنهم يحاولون اليوم أن يلعبوا اللعبة التي خدعوا بها الأرمن لخداع الأكراد، ولهذا سعوا أولا لتحريضهم ضد تركيا ليتمردوا. وعندما فشلوا في ذلك سلّحوا التنظيمات الإرهابية بعدما زعموا أنها تمثل الشعب الكردي في محاولة منهم لتكرار المسرحية.
لكن اللعبة لم تفلح هذه المرة. ذلك أن الأكراد لا ينخدعون كشعب بهذه الخدعة، كما أن هناك تركيا التي تفسد اللعبة بشكل كبير.