تعرّفت أمل على نبيل منذ أكثر من عامين وارتبطا؛ هي كاتبة شابة من تونس، وهو طبيب مصري مقيم في القاهرة. وأمضت أمل خليف نصف تلك المدة وهي تفكر معه: هل نتزوج؟
أمُّها بلهفة، كباقي الأمهات، بقيت تسأل ابنتها التي بدأت سنينها الأولى كامرأة ثلاثينية: “متى تتزوجين؟”، دون أن تدرك الكم الهائل من التساؤلات التي كانت تجوب في عقل أمل؛ فالزواج بطريقته الحالية في البلاد العربية هو “مشكلة كبيرة” بالنسبة لأمل التي تؤمن بالنسوية كأسلوب حياة، وترى في الزواج “ذكورية” لأن القوانين العربية تكرس الرجل رئيسا للعائلة، كما تقول.
أفكارها الخاصة بها أوصلتها إلى الجواب: “سأتزوج. فالزواج هو جواز سفري الوحيد للعيش مع الرجل الذي أحب. ومن منطق نسوي وإنساني، الزواج يعطيني ميزات أكثر ويضمن لي نوعا من الأمان؛ فلماذا أعيش علاقة من غير زواج تجردني من حقوقي القانونية وتجعلني طرفا هشا فيها؟”.
رغم أن أمل تشعر بأن هذا القرار كان بمثابة “هزيمة” لقناعاتها ولأحلامها، لكنها اتخذته بعد إدراكها حقيقة أن الزواج هو “الخيار الوحيد” – حاليا – لضمان حقوق كثيرة لها كامرأة تعيش في مجتمع عربي.
“اتخذت قرار شخص مفكر؛ ففي مجتمعاتنا لا يمكنني الإنجاب دون زواج، إذا حقي بالأمومة مكفول فقط في الزواج. الأمر لا يستحق إنجاب طفل بلا زواج وتعريضه لعنف مضاعف. كنسوية، أستطيع تحدي المجتمع في مواضيع كثيرة لكن لا يمكني تعريض ابني أو ابنتي للعنف بسبب خياراتي الشخصية”، تقول أمل عبر الهاتف من مصر التي انتقلت للعيش فيها.
“أنا نسوية ومن حقي أن أختار”
في نوفمبر/تشرين الثاني رأيت صورا على صفحة فيسبوك الخاصة بأمل؛ أدقق النظر فيها لأتأكد أن المرأة ذات الثوب التقليدي النبيذي المذهّب والتي تضع مستحضرات تجميل بألوان قوية هي أمل ذاتها. تتوالى الصور والفيديوهات طيلة أيام؛ ترتدي في بعضها ثوبا ذهبيا ذا طراز تونسي يغطيها كلها؛ وآخر مكشوف الكتفين كأحد فساتين سندريلا، تمشي وتتبعها فرقة تغني وتحمل رايات ملونة، وتظهر في صور أخرى ترتدي قفطانا أبيض. بعدها بدأ الأصدقاء ينشرون على صفتحها صورا لها بفساتين عصرية شبيهة بفساتين بطلات الأفلام؛ واحد أبيض طويل وضيق، وآخر أحمر داكن قصير.
معرفتي بأمل جاءت من قراءة أفكارها المكتوبة بشجاعة على فيسبوك عن الشأن العام وكذلك عن حياتها الشخصية؛ تبدو شخصا جريئا وتطرح أسئلة كثيرة تتعلق بثقاقة مجتمعها، لذا أسألها عن كل هذه “الليالي الملاح” للاحتفال بزفافها. كان واضحا من جوابها أنني لم أكن وحدي من تفاجأ بشكل الاحتفالية.
“تفاجأ أصدقائي جدا جدا جدا وقال لي أحدهم: الحمدلله إنك فمنست، لو ما كنت فمنست شو كنت عملت”. ثم تضيف بتأكيد: “نعم أنا نسوية ومن حقي أن أختار أن أفعل كل ما أحبه، وأنا بطبعي شخص احتفالي ورومانسي يحب كل ما هو استعراضي”.
أغلب حديث أمل، ابنة صفاقس، كان عن أمها التي وصلت إلى حالة من الانسجام معها بعد سنوات طويلة من الصراع. “أردت أن أفرّح أمي بطريقتها ولم أرد أن أفرض عليها أسلوب حياتي”.
“فكرت: ماذا سأخسر من احتفالي بالزواج بشكله التقليدي على طريقة أمي وعائلتي. كان الكل يقول هذا فرح أم أمل فهي من اختارت كل شيء وجمعت العائلة رغم السفر والهجرة”.
تبدو أمل وكأنها ناقشت في رأسها كل الحجج الـ مع والـ ضد لفكرة زواجها التي اتبعت فيها كثيرا من عادات مدينتها، حتى توصلت إلى قناعات تخدم المبادئ النسوية التي تؤمن بها: “أرفض تكريس فكرة ربط النسوية بنمط واحد هو الغربي الحداثي؛ حيث يذهب الزوجان إلى محكمة مدنية بثياب غربية عصرية ثم يسهران مع الأصدقاء فيشربون ويرقصون. على النسويات قبول فكرة التنوع والاختلاف ضمن مظلة النسوية ومحاولة العثور على أجوبة تخص كل ثقافة”.
شوربة عدس
كانت صدفة غريبة أن أقرأ ما كتبته أمل قبيل زواجها: “أعتقد أني سأتزوج في الأيام القادمة لأني التقيت رجلا دافئا ولذيذا كشوربة عدس حارة بطقس بارد”، فقبل ذلك بفترة قصيرة قرأت تعليقا قريبا منه كتبه شاب سوري عن صبية سورية التقاها في لندن هي فرح حداد: “دعوتها لتناول شورية عدس من وصفات أمي فقالت لي: ذكرتني بالبلد. هي من دمشق، وأعتقد أني سأتزوجها”.
تعرّف فرح عن نفسها كنسوية وهي حاصلة على شهادة ماجستير حول دور المرأة في السلام والأمن من جامعة في لندن – المدينة التي تعيش فيها.
تعرفت على حسّان عبر موقع انستغرام فهو زميل قديم لأختها، وتقول إنه عندما فاجأها بعرض الزواج كان أول رد فعل منها أن طلبت منه الاتصال بأهلها على سكايب. “لا أعرف لماذا لا أزال بعقلية أني أريد أن يكون أهلي فرحين بي. يهمني موافقة الأهل وأعتبره عنصرا لإنجاح الزواج”.
وكحال أمل، واجهت فرح ذات الـ 26 عاما نفسها وبدأت تفكر مليا بتفاصيل كثيرة، ومن أهمها: هل سأقبل بأخذ المهر؟ فكما أصبح معروفا، تصبّ نسويات كثر غضبهن على عقد الزواج باعتباره عقدا مؤسساتيا يدفع فيه الرجل مبلغا ماديا للمرأة التي يتزوجها، لكن فرح قررت أن تقبل بفكرة المهر.
“كان من الصعب ومن الغريب الحديث عن فكرة المهر لأنها مرتبطة بفكرة الانفصال. لكن عند الدخول في علاقة زواج لابد من مناقشة هذه الأمور. وجدت تفسيرا نسويا لهذا الموضوع واتفقنا أن آخذ المهر إن وقع عليّ أذى من طرفه. وأيضا بطبيعة الحال نحن غير متساويين اقتصاديا فمكانة الرجل الاقتصادية هي غالبا أفضل من وضع المرأة”.
ففي بريطانيا لاتزال هناك فجوة بين رواتب الرجال والنساء الذين يؤدون نفس الوظائف في العمل والتي تسمّى محليّا “ Pay Gap“.
من الصور التي نشرتها فرح على إنستغرام لتشارك الأصحاب خبر ارتباطها، بدا الحفل وكأنه أقيم في مزرعة بدمشق؛ رجل يعقد القران على الطريقة الإسلامية بوجود شهود، ورقص ودبكة على الطريقة السورية وعشاء وأجواء عائلية.
كانت فرح قد استقلت بحياتها عن أهلها وسافرت منذ عمر الـ 18 لتدرس في أمريكا وبعدها جاءت إلى لندن لمتابعة دراساتها العليا، واليوم تتخيل حفل زفافها مع أهلها المقيمين في عمّان؛ زفاف مشابه لعرس أختها الأكبر قبل سنوات. وبما أنه من الصعب أو المستحيل على عائلتها المقيمة بسوريا القدوم إلى بريطانيا فهي من ستذهب لهم.
“النسوية ليست مجرد مكاسب قانونية”
قد يعتبر بعض الناس أن الحديث عن الحب ترف ورفاهية بسبب غياب حقوق أساسية للمرأة في المجتمعات العربية؛ حيث تتوالى جرائم قتل الرجال لقريباتهم النساء دون محاسبة حقيقية أو رادع قانوني، وتنتشر جرائم التحرش والاغتصاب وتزويج الفتيات مبكرا وغياب حق حضانة الأمهات لأطفالهن في مجتمعات عديدة وغيرها من المشاكل المُعَشّشة في المجتمعات العربية. لكن في مقالة فريدة عنوانها “ماذا تعرف النسويات عن الحب” ترجمتها رحاب شاكر للعربية، تشرح الكاتبة الهولندية أنيا مولينبيلت كيف أن الحب يعتبر من صميم القضايا النسوية لأنه يلتصق بقضايا الجسد والاستقلالية والدّخل والتوازن في علاقة المرأة والرجل.
تعلّق أمل على ذلك: “النسوية ليست مجرد قوانين. والحياة لا يمكن أن تكون مجرد معركة حقوق وربح مكتسبات؛ فليس المهم فقط أن نأخذ الحقوق بل أن نستمتع بالحياة. ترتيب الأولويات أمر شخصي جدا ومرتبط بتطور الشخص. لكن حتما الحب يساعد على التواصل مع الآخر”.
كما أن موضوع إيجاد الشريك المناسب لا يزال أمرا صعبا في الأوطان، لذا فمن البديهي أن يزداد الصعوبة في الغربة، حيث يصبح موضوع العلاقات حديثا دائما بين المهاجرين وتتغير معايير الزواج وطريقته.
فرح نفسها كانت قد فقدت الأمل بالعثور على شريك مناسب ينتمي لنفس ثقافتها، وتقول إن كثيرات من حولها مررن بنفس الشيء: “موضوع الارتباط هنا معقّد. من الصعب في هذه البلاد العثور على شاب من نفس ثقافتنا وجاهز للالتزام بعلاقة جدية ويحترم استقلالية المرأة وحريتها”.
وترى أيضا أن الشباب العرب “غالبا ما يفضلون الارتباط بأجنبيات بسبب متطلبات مادية من قبل عائلات الشابات العربيات المغتربات والتي غالبا ما تفضّل الارتباط الرسمي السريع”.
لذا كانت سعيدة بالارتباط بحسّان الذي أحبته وصادف أنه ينتمي لنفس ثقافتها لذا لم يعد يهمها مقاتلة التقاليد فيما يتعلق بتفاصيل الزواج إن لم تكن تضرّها: “كنسوّية ليست إهانة لي أبدا أن أعقد قراني بطريقة إسلامية وتماشي التقاليد السوريّة. لكني في الوقت نفسه أدافع عن حق النساء بالزواج المدني، مثلا، إن رغبن بذلك ولم يستطعن الحصول على هذا الحق. تعلمت أن أختار معاركي ومعركتي حاليا تحقيق التوازن في بيتنا بيني وبين حسّان في العمل داخل وخارج البيت”.
.
المصدر/ BBC