ما إن تم الإعلان عن بدء تركيا في اتخاذ خطوات عملية لإنشاء مشروع قناة إسطنبول حتى تعالت التنديدات المشككة في نواياها، متهمة إياها بالتصعيد ضد مصر والعمل على إلغاء دور قناة السويس في قطاع الملاحة البحرية، وتقليص حجم ايراداتها، الذي تعول عليه مصر واحدا من أهم مصادر دخلها المحلي، بعد أن تجذب قناة اسطنبول الجديدة نسبة من السفن المارة في قناة السويس.
وهي الاتهامات التي تبناها وروج لها مثيرو الفتن، وهواة الصيد في الماء العكر، الراغبين في زيادة حدة الخلافات بين أنقرة والقاهرة، من دون سند حقيقي، لقطع الطريق أمام أية محاولة مستقبلية تفسح المجال أمام إحداث نوع من المصالحة أو على الأقل تهدئة الآزمة المتأججة بين الدولتين، واصفين التحرك التركي بأنه استمرار للحملة العدائية ضد مصر، وأن المستهدف هذه المرة هو الاقتصاد المصري عبر توجيه ضربة قاصمة لأحد ركائز دخله المهمة.
الغريب في الأمر أن مشروع تركيا الخاص بإقامة مجرى مائي تحت اسم ” قناة إسطنبول الجديدة ” تم الإعلان عنه رسميا عام 2011 حينما كان رجب طيب أردوغان رئيسا للوزراء، ولم يتحدث أحد حينذاك عن وجود مؤامرة تركية تستهدف مصر أو تسعى للحد من قيمة أو دخل قناة السويس، ناهيك عن كون قناة إسطنبول لا تمثل أي تهديد يذكر لقناة السويس، لا على المستوى الاقتصادي ولا على المستوي الملاحي.
فالقناة الجديدة تربط البحر الأسود ببحر مرمرة، استغلالا للعدد الكبير من السفن الذي يستخدم فعليا مضيق البوسفور، فيما تربط قناة السويس بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، أي أن كل قناة منهما تخدم طريقا مغايرا لما تخدمه الأخرى، وبالتالي لا مجال للتنافس بينهما. كما أن تحويل ذلك العدد من السفن الذي يستخدم مضيق البوسفور للقناة الجديدة، لن يؤثر بطبيعة الحال على أعداد السفن المستخدمة لقناة السويس مثلما هو الوضع الحالي.
عدم وجود تنافسية تذكر بين قناة السويس وإسطنبول الجديدة، لا تنفي بطبيعة الحال أن المنافسة الحقيقية هنا ستكون عمليا بين قناة إسطنبول وموانئ الامارات، خصوصا وأن القناة الجديدة تستهدف نقل التجارة بين الصين وأوربا من المحور الجنوبي حيث النفوذ الإماراتي على موانئ عدن وبربرة وعصب في باب المندب، إلى محور الشمال والبحر الأسود حيث تركيا، الأمر الذي سيزيد، من دون شك من قدرة تركيا على المنافسة الاقتصادية والاستقطاب التجاري، خصوصا مع الانتهاء من مشروع طريق الحرير الحديدي، وهو ما يعني فعليا تحويل مدينة إسطنبول إلى مركز عالمي للتجارة الدولية مقابل أفول نجم دبي كمركز مالي إقليمي.
وهو الطرح الذي لم يقترب منه أحد، لا تصريحا ولا تلميحا، فيما ركز الجميع هجومهم على استهداف تركيا لمصر خلافا لواقع الأمر، ما يشير إلى أن محاولة زيادة الاحتقان وتصعيد حدة الخلاف بين أنقرة والقاهرة تستهدف بالأساس دفع الأخيرة لمواجهة المشروع التركي نيابة عن الإمارات التي تدرك تماما استحالة وقوفها أمام تركيا مباشرة، ما يستلزم بحثها عن بديل قوي يمكنه القيام بهذا الدور، والتصدي لتركيا عوضا عنها، وهو ما وجدته في حليفتها القاهرة.
معارضة قناة إسطنبول الجديدة لم تأت فقط من جانب محيط تركيا الإقليمي، بل إن كلا من الولايات المتحدة الامريكية وأوربا أبديتا اعتراضا شديدا على المشروع، ورفضا تاما له، فالإدارة الامريكية التي أدانت التحرك التركي سعت إلى عرقلة إتمام إنشاء القناة، حتى وصل الأمر ببعض أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى التوقيع على مذكرة طالبوا فيها الأجهزة المعنية في الإدارة الامريكية بالعمل على منع تزايد حجم التعاون بين الصين وعدد من الدول في مشروع طريق الحرير، واتخاذ إجراءات صارمة في حال قررت تركيا أن تكون جزءا من المشروع الصيني من خلال بنيتها التحتية، كون ذلك المشروع يستهدف بالأساس القوة الامريكية الحاكمة، وإضعاف القدرة الامريكية في نهاية الأمر.
واشنطن لديها قلق بالغ بسبب تنامي الارتباط التجاري بين تركيا والصين، خصوصا في ظل طموحات بكين الرامية إلى الاستفادة القصوى من مشاريع البنية التحتية التركية، وما يرتبط بها من جسور وأنفاق وطرق سريعة، لخدمة مشروعها الاستراتيجي المعروف بإحياء طريق الحرير التاريخي، لنقل تجارتها من الشرق إلى الغرب، حيث تسعى حاليا للتفاوض مع تركيا لاستكمال المرحلة الثانية من المشروع، التي تبدأ من مدينة قارص شرق تركيا إلى مدينة أدرنه على الحدود مع بلغاريا، وهي المرحلة التي ستتقاطع عمليا مع قناة إسطنبول الجديدة، ما سيحول تلك المنطقة إلى مركز تلاقي خطوط التجارة البرية والبحرية بين الشرق والغرب، الأمر الذي يسبب قلقا بالغا لواشنطن التي ترى في ذلك تهديدا اقتصاديا متزايدا لها، خصوصا بعد تصريحات وزير المالية التركي التي أوضح فيها أن إسطنبول ستتحول إلى مركز مالي عالمي يقدم خدمات للمستثمرين بأسعار تنافسية لمراكز فرانكفورت ولندن وسنغافورة ونيويورك، كما أنه يتفوق على تلك المراكز العالمية بميزة توسطه لقارات العالم القديم.
أما على صعيد الاتحاد الأوربي، فإن إتمام مشروع القناة يعني نجاح تركيا في إضافة مصدر دخل جديد سيمكنها من حل مشاكلها الاقتصادية منفردة، بل ويمنحها الفرصة لجني المزيد من الأرباح المالية من عائدات القناة، إلى جانب زيادة أهميتها الاستراتيجية في العالم، بعد أن تتحول المدينة التاريخية – وفق مشروع القناة الجديدة – إلى مركز عالمي للتجارة الدولية، الأمر الذي يعني تلقائيا زيادة قوتها وقدرتها على تحقيق مكانة متفردة تسمح لها بالخروج من التبعية والاستغناء عن الغرب عموما، والقضاء تماما على شغفها الخاص بالانضمام للمنظومة الأوربية.
وإذا كنا نلتمس العذر للدول الرافضة لمشروع إنشاء قناة إسطنبول الجديدة في إطار حماية مصالحها التجارية والسياسية ومكانتها الإقليمية، وهيبتها الدولية، فلا أحد يمكنه أن يلوم تركيا على تشبثها بإنشاء القناة، وإصرارها على استكمال حلمها، الذي ترى أنه يحقق لها الكثير من المكاسب على كافة الأصعدة السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، شاء من شاء وأبى من أبى.
المصدر: الجزيرة- صالحة علام