هل صار للإسلاموية مدينة فاضلة؟!

هل يوجد نص مرجعي اليوم يمكننا من خلاله محاسبة الإسلاموية بشأن ما ودعت به وما حققته على أرض الواقع؟

لا شك أن هناك نصوص إسلامية في غاية الأهمية، كما أن هناك مجموعات وجماعات ومنظمات تتبنى هذه النصوص التي تتضمن طموحات ومطالب مطروحة وعصر ذهبي مرسوم ومدينة فاضلة مستهدفة. ويجب أولا تحليل التأثيرات التي كتبت في ظلها هذه النصوص شريطة ألا نربط مصدرها جميعا بهذه التأثيرات.

ونذكر على سبيل المثال كتاب “معالم في الطريق” لسيد قطب كواحد من أبرز وأقوى الكتب الإسلامية في هذا المجال. غير أن التيار الإسلامي في تركيا لم يقدم هذا النوع من النصوص التي تكون بمثابة بيانا للحركة. لكن كتاب سيد قطب وضعت له تفسيرات مختلفة، فهذا الكتاب يعتبر نصا يتخطى حاجز العدالة الاجتماعية في الإسلام ويحتم إعادة قراءتها وتفسيرها من خلال نموذج مختلف. بيد أن النموذج الذي طرح كان نموذجا يتجاهل الجانب السياسي أكثر من اللازم، وربما لهذا السبب صار الكتاب عملا يحمل تأثير التحول ضده.

إن التشدد الأكثر من اللازم يتحول إلى باب يقودنا إلى الليبرالية. ذلك أنه مما لا شك فيه فإن برامج الأفعال التي من الصعب، بل المستحيل، على المرء القيام بها تقود الإنسان إلى نقطة الاستسلام الراديكالي لما هو موجود، هذا فضلا عن وجود تعارض أن يكون المرء متشددا للغاية في العقيدة، فيما يكون ليبراليا إلى أقصى الحدود في العمل. بيد أن العدالة الاجتماعية في الإسلام، التي شعر قطب أنها تخطاها بكتابه “معالم في الطريق”، تميل بشكل أكبر نحو السياسة، بل إنكم يمكنكم أن تلاحظوا أنها كانت مصدر إلهام لكل برامج الإسلام السياسي التي ظهرت بعد ذلك.

لقد كان للوعود والبرامج التي يحاولون صياغتها في هذا المقام، بشكل أو بآخر، دور مؤثر في سلوكيات المسلمين اليوم في المجالين السياسي والاقتصادي. كما كان التأكيد على العدل والمطالبة به والطموح من أجله دائما في مركز الإسلام السياسي الممزق أصلا. ولأنه لم يكن هناك أي تنظيم على مستوى الدولة في هذا المجال أبدا، فإن محاولات تنفيذ هذه الوعود تكون على مستوى المجتمع المدني أو الجماعات أو التجمعات أو تكون هذه المحاولات موجهة لطرح سياسات تتناسب مع هذه الوعود من خلال المناصب التي يتم الوصول إليها على المستوى السياسي.

لم أرحب منذ البداية أبدا بطرح فكرة مدينة فاضلة من أجل الإسلاموية. ولو لاحظتم فسترون أن حتى كتاب سيد قطب، الذي يعتبر من النصوص الأساسية التي تعبر عن الإسلاموية بأفضل شكل، لا يبني مدينة فاضلة، بل إنه يعتبر مضادا لهذه المدينة الفاضلة. فهو لا يعد على سبيل المثال الإنسان الذي يواجه مشاكل مادية اليوم بحياة أفضل وأكثر رفاهية في المستقبل، بل على العكس تماما؛ إذ إنه يهدف لتعريف الخالق سبحانه وتعالى لمن خسر نفسه في مستنقع عبودية العباد ممن يعبدون أمثالهم من البشر بجهل، بل ربما يعبدون عبادا أكثر منهم عجزا، ومن انقطعت صلتهم بخالقهم وفقدوا الوعي بسبب مجيئهم وحياتهم في هذه الدنيا وصاروا يجهلون أنفسهم، كما أنه يسعى لأن يكون مرشدا على طريق الحرية الذي يصل إليه الإنسان عندما لا يعبد أحدا إلا الله. فهذا الكتاب يحكي على وجه الخصوص أن هذا الطريق شاق وبه الكثير من الصعوبات وأن أحدا لا يضمن أن يصل إلى نهاية سعيدة في هذه الحياة الدنيا.

إذن، ألا تقودنا وعود الإسلاموية إلى طريق عرفاني للغاية؟ طريق شاق ليس به أي مدينة فاضلة؟

هذا أمر مؤكد. ولهذا أرى أن الوعود التي لا تصل بنا إلا إلى مفاهيم كالرفاهية والمساواة تعتبر أشياء تضفي صبغة دنيوية أكثر من اللازم على الإسلاموية. وإن معرفة الإنسان نفسه يأتي معها معرفته لحدوده وسائر البشر الآخرين. فالمسلم الذي يعلم أن هذه الحياة إنما هي حياة اختبار يعلم كذلك أن وجود نظام مُثل جامد أمر مستحيل في هذه الحياة. كما أنه يعلم أن المدينة الفاضلة، التي هي من نسج العقل البشري، حتى لو تحققت قدرا فإنها ليست دائمة وباقية، وأنها ستكون ناقصة بسبب خصال الإنسان وأطماعه وفنائه. ذلك أن المسلم هو عبد يعرف نفسه وربه وسائر البشر الآخرين.

لا ريب أن الإسلاموية ليست عبارة عن تيار سياسي مطلق أو أيدولوجية سياسية، بل الأهم من ذلك كله أن لها جانب متعلق بالتدين يكون في مركز كل العلاقات؛ إذ إنها وعي يبدأ بالإيمان بالله والغيب والآخرة على وجه الخصوص ويكتمل به. كما يظهِر هذا الوعي الظلم الذي يتضمن فرض شيء ما على الآخرين.

إن الإسلاموية تعتبر تمردا على من يفرضون العبودية على العبد. فكل إنسان حر في عبادة ما يريد أن يعبد شريطة ألا يفرض إلهه على الآخرين.

وعندما تتحول الإسلاموية إلى فكر سياسي، فإنها تبتعد عن فرض هذا الدين على الناس وإرغامهم بالقوة على تبني الإسلام، بل إنها تسعى لإزالة كل الحواجز التي تقف في طريق حرية الناس في الإيمان بما يريدون من دين.

إن هذه هي أبرز فكرة يحملها كتاب “علامات على الطريق” الذي يقدمه البعض على أنه نص مرجعي للتطرف والعنف. فهذا الكتاب يصيغ حتى فكرة الجهاد على أنها محاولة لتحرير الناس لا لنشر الإسلام.

وإذا طرحتم سؤالا حول إلى أي مدى نجح الإسلاميون في رسم ملامح السياسة والثقافة والاقتصاد بمفردهم عندما وصلوا إلى السلطة؟ فإنكم بذلك تكونون قد قلتم إن ما تتوقعونه من الإسلاموية هو نظام الستار الحديدي بمعناه الكلاسيكي، وهو التوقع الغريب الذي عادة ما ينطلق منه من يتحدثون عن “فشل الإسلاموية”.

بيد أن الإسلاموية – في الواقع – تعتبر تيارا يرى أنه من الممكن أن يعيش الجميع مع بعضهم البعض دون مشاكل ويتبعد عن الفكرة المتكبرة التي ترمي لرسم ملامح كل المجالات بمفردها طالما لم تتخلص من الآخرين.

.

ياسين اكتاي بواسطة/ ياسين اكتاي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.