حينما جلست لأكتب مقالي الأخير في عام 2019، وجدت أن هناك العديد من المواضيع التي تستحق الكتابة عنها. مسألة ليبيا، ومقترح التنمية المستدامة من أجل سيادة العالم الإسلامي بأسره، وصولًا إلى الأمل الواعد الذي يختبئ في جبين السيارة الأكثر أناقة محلية الصنع، فعن أي منها أكتب يا تُرى؟.
لكنني في النهاية رأيت أنه سيكون من المفيد أكثر الحديث بشيء عن فؤاد سيزغين، ليكون آخر مقال في العام 2019. كما تعلمون؛ قد اختارت الرئاسة التركية 2019 كي يكون عام فؤاد سيزغين. أعتقد أن علينا التحدث أكثر عن هذا الموضوع، الحديث عن الفكر الذي رسخه ذلك الرجل، والتعمق به والعمل عليه، بل وحتى محاولة تطوير نقد إرثه الفكري. ولذلك أريد أخصص مقالي الأخير لعام 2019 للحديث عنه، كضرورة من ضرورات هذا العام.
إن مما لا شك فيه، أن فؤاد سيزغين بينما كان يحاول إعادة إفراز الميراث الثقافي والفكري والعلمي والتكنولوجي للإسلام، كان أيضًا يهزّ المفهوم التاريخي للعلوم التي مركزها في الغرب، ومن ناحية أخرى يوجّه نقدًا قويًّا للاستشراق.
إن الاستشراق حينما تغلغل في نصوص التاريخ الغربي، وعلومه وآدابه وفلسفته، كان بكل تأكيد يحمل أبعادًا مشوِّشة عبر نظرته الإثنية نحو العالم الإسلامي. ومع ذلك ليس من الصواب القول أن نقد الاستشراق كان من أولويات أعمال الأستاذ سيزغين. بل ربما يمكن قول ما هو أكثر من ذلك: ربما الأكاديمية الاستشراقية التي ربما كان منسوبًا إليها، هي قد جعلت أعماله شيئًا ممكنًا.
ولهذا السبب بالتحديد، تتمتع أدبيات سيزغين بخاصية من شأنها أن تغير النظرة نحو الاستشراق، أو على الأقل تقتضي بخلق نظرة جديدة نحو تلك المسألة. إن نقده للاستشراق لا يشبه ذلك الموجود في دوائر علم الإلهيات الإسلامي. يقول بأن الهدف الوحيد من المستشرقين ليس استعمار الإسلام عبر تحيزات سيئة تحاربه، بل إنهم بمثابة شرايين حسنة النية، تسعى نحو تعلّم وفهم العلوم والكنوز والأعماق التي يحتويها الإسلام.
في الحقيقة، إن المستشرقين ليسوا كلهم سواء، ولا ينطلقون جميعًا من نقطة دافع موحدة ومشتركة. إن كتاب الاستشراق الشهير لإدوارد سعيد، تم طباعته في أول نسخة مترجمة للتركية، تحت عنوان “ذراع طليعة استعمار المستشرقين”، وهذا ما ليس موجودًا في النسخة الأصل. هذا نموذج عن نهج الاختزال الذي يضع كل الأدب المستشرق في كفة واحدة. ومع ذلك، يرى إدوارد سعيد ذاته أن الاستشراق قد بدأ مع محاولة تعرّف انطلقت من خلال تساؤلات الغرب عن الشرق.
بالطبع لا يمكن أن يكون كل هذه المحاولات “التعرّفية” لها الغرض ذاته، أو أنها تسعى للتربع على عرش الغلبة. إن العلاقة فيما بين المعرفة والغلبة تعود إلى أصول فلسفية غربية، وبالتأكيد هي ليست إلزامية. في الواقع، إلى جانب النية السيئة العامة أو الاستعمار أو الأحكام المسبقة؛ نحو الإسلام أو الشرق، والتي يتصف بها الاستشراق، هناك أيضًا من المستشرقين من مثل مكسيم رودنسون أحد أبرز المستشرقين والذي ترجم له إلى التركية، جميل ماريتش، حيث يقول على حدّ تعبيره “الإسلام الذي سحر الغرب”.
إن رودنسون في النهاية هو مستشرق مهم، وحين النظر من منظور تاريخي ماركسي، نجد أن أعماله تتحدث عن إسهام الإسلام في تاريخ البشرية والمكانة التي لا يمكن إنكارها للإسلام في تشكيل صورة الحضارة الإسلامية. إن هذا الكتاب إلى جانب كتاب إدوارد حول الاستشراق، يمشي عكس رياح السلبية التي يتم تصديرها نحو جميع الدوائر الأكاديمية والعلمية، وأن الغرب ليس جميعه يحمل الموقف المعادي للإسلام، بل على العكس، يكشف أن الإسلام يسحر الغرب وطالما يؤثر فيه. وعلاوة على ذلك، فإن المعرفة الغربية التي فُتنت بالإسلام هي في الحقيقة معرفة شرقية. لكنها ليست على طراز شرقية دانتي بالطبع. هناك أيضًا لـ ليونارد بيندر تفريق شبيه بذلك، حيث يؤكد على وجود فرق ما بين “الاستشراق الجيد”، و”الاستشراق السيء”.
لقد قدّم سيزغين عبر محادثات دارت بينه وبين سفر توران، وتم نشرها على شكل كتاب؛ أمثلة عديدة إلى جانب تقديمه للمستشرق الفرنسي جوزيف توسان رينو كمثال أيضًا. في الوقت الذي كان تم فيه طبع عدد قليل من كتاب الجغرافيا العربية آنذاك، فإنه عمل على الجغرافيا الإسلامية، وبذل جهودًا استثنائية من أجل التدليل على وجود آثار للجغرافيين الإسلاميين في تاريخ الجغرافيا العالمية.
في الواقع، إن الشخص الذي دفع بسزغين نحو ألمانيا، وكان بمثابة بداية في تشكيل المجموعة التي خلفها، كان هو معلمه المستشرق.
إن أعمال المستشرقين في الرياضيات والجغرافيا كان مهمًّا للغاية، إلا أن ما بقي مسجلًا تلك النجاحات التي تم تحقيقها في ميدان الجغرافيا البشرية. في الحقيقة لا يمكن إنكار مساهمات المستشرقين حول العلوم وكذا البحوث الإسلامية. على الرغم من وجود شكوك تخيم على المشهد وتتحدث عن نية سيئة عامة لدى العديد من المستشرقين في مجال علم الحديث، عبر بث الشكوك والشبهات؛ فإن الجميع يعلم أن فهرسة أكبر 6 كتب للحديث إضافة إلى 3 أخرى، تمت عبر جهود حثيثة وأعمال متواصلة، لا من المسلمين بل من المستشرقين. ربما مع انتشار الحواسيب لا يحمل هذا العمل تلك الأهمية القديمة ذاتها، لكن خلال القرن العشرين الذي لم يكن يعرف تصنيف الحواسيب أو فهرستها للأشياء، احتفى بهذا العمل ل واعتبره مفيدًا وتقدميًّا ومتطورًا، ولا يقدّر بثمن.
لقد خصصنا المقال الأخير من عام 2019 للحديث عن الأستاذ فؤاد، لكن ذلك لم يكن كافيًا، ولذا يبدو أن مفتاح عام 2020 سيكون استكمالًا لذات الحديث.
.