ما تزال كثير من النخب السورية تمارس نقدها السياسي خارج إطار الفهم التداولي للسياسة باعتبارها فنا للممكن وخاضعة لاعتبارات معقدة تتجاوز في كثير من الأحيان، الأبعاد الأخلاقية ـ الإنسانية الضيقة التي يضفيها الأفراد على الفعل السياسي.
ثمة هجوم كبير تتعرض له تركيا من أقلام سورية، يحملونها المسؤولية عن الجرائم الإنسانية التي يرتكبها النظام السوري وروسيا في إدلب، كما حملوها سابقا مسؤولية سقوط اتفاق خفض التصعيد في الغوطة الشرقية وحمص، وقبلها سقوط حلب عام 2016.
ويتوسع هذا الهجوم ليشمل السياسيين السوريين ممن هم منضوين في مسار استانا الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه الآن وفق هؤلاء النقاد.
ملاحظات
ثمة ملاحظات يجب ذكرها لأهميتها قبل الخوض في النقاش:
ـ لا يمكن اختزال السياسة التركية في سوريا كطرف مباشر في الصراع الداخلي بين ثنائية النظام / المعارضة، وبالتالي إضفاء أحكام قيمية على سلوكها كما هو الحال حين يجري نقد المعارضة بشقيها السياسي والعسكري.
ـ إنها دولة إقليمية لها خصوصية في الصراع السوري بحكم الجغرافيا، لكن مصالحها تتقاطع وتتجاوز في الوقت ذاته مصالح المعارضة المحصورة في إسقاط النظام السوري فقط.
يخطئ الكثيرون حين يعتبرون أن تركيا هي أحد الصانعين الرئيسيين لمسار آستانا، ولم ينتبهوا إلى أن هذا المسار متفق عليه بين الروس والأمريكيين ضمن سياسة الحل من أسفل التي تحدث عنها تقرير مؤسسة راند الأمريكية
ـ ليست تركيا اللاعب الأقوى في الساحة السورية، فسلوكها السياسي / العسكري يخضع لسيمفونية الروس والأمريكان، ولاعتبارات استراتيجية تفوق مسألة إسقاط النظام السوري.
ـ تُركت تركيا وحيدة من قبل الغرب في ترتيب أوراقها السورية، ولذلك وجدت نفسها مضطرة إلى اللعب مع الروس تارة أولى ومع الأمريكيين تارة ثانية ومع الأوروبيين تارة ثالثة.
ـ تختلف السياسة التركية عن كل اللاعبين الإقليميين والدوليين الآخرين، في أن سلوكها يخضع لاعتبارات سياسية وإنسانية في الوقت نفسه، فهي تستقبل نحو أربعة مليون لاجئ سوري، وهي مرشحة أكثر من غيرها للتعرض لأذى اللجوء نتيجة المعارك في عموم الشمال السوري.
ـ تركيا هي الدولة الوحيدة من بين الدول الفاعلة في الملف السوري التي تتعرض لنيران مدفعية من داخل الأراضي السورية.
مناطق خفض التصعيد
يخطئ الكثيرون حين يعتبرون أن تركيا هي أحد الصانعين الرئيسيين لمسار آستانا، ولم ينتبهوا إلى أن هذا المسار متفق عليه بين الروس والأمريكيين ضمن سياسة الحل من أسفل التي تحدث عنها تقرير مؤسسة راند الأمريكية “خطة من أجل السلام في سوريا” نهاية عام 2015، أي قبل أن يجد مسار آستانا النور.
تركيا هي جزء من عملية تطبيق وتنفيذ سياسة الحل من الأسفل المعتمدة دولية بشكل مضمر، وقبولها الدخول في تنفيذ هذه السياسة هو السبب في منحها أو السماح لها الدخول إلى الأراضي السورية عسكريا.
هنا تطرح تساؤلات، ما علاقة تركيا بالغوطة الشرقية وبحمص وبالجنوب السوري؟ وهي ثلاث مناطق ليس لتركيا أي دور أو أي مصلحة فيها.
إن سقوط الغوطة الشرقية والجنوب السوري يخضع لاعتبارات خاصة لا دخل لتركيا فيها، ثمة تساؤل يطرح هنا، لماذا ترك النظام السوري الغوطة الشرقية لسنوات طويلة قبل أن يقدم على العملية العسكرية؟
لم تكن الغوطة الشرقية كشوكة عسكرية كما توهم الكثيرون في أوساط المعارضة السياسية والعسكرية، قالمنطقة ساقطة عسكريا منذ سنوان، منذ اللحظة التي تم حصارها بالكامل، وقد تركها النظام لأسباب اقتصادية، حيث كان الفصائل العسكرية في الغوطة تحصل على دعم مالي شهري من السعودية وقطر، وكانت الأموال تحول عبر مكاتب الصيرفة في دمشق بعلم النظام الذي يحصل على العملة الصعبة ويصرفها وفق سعر صرف البنك المركزي، ثم يتم تسليمها للفصائل التي تشتري المواد الأولية من النظام بأسعار خالية.
باختصار، كانت الغوطة الشرقية مصدر للعملة الصعبة بالنسبة للنظام، وما أن توقف تحويل الأموال بفعل الأزمة الخليجية الأخيرة (السعودة، الإمارات / قطر)، حتى بدأ النظام الاستعداد للسيطرة على الغوطة الشرقية.
والأمر ذاته ينطبق على ريف حمص الشمالي وعلى الجنوب السوري وحتى على القلمون الشرقي، فكل هذه المناطق لا دخل لتركيا فيها.
إدلب
القراءة التي تعتقد أن محافظة إدلب هي جزء من المنطقة الاستراتيجية التركية في سوريا، هي قراءة خاطئة، ولم يكن تأجيل معركة إدلب خلال السنوات الماضية ناجما من أن هذه المنطقة هي جزء من الحصانة التركية.
يجب التمييز بين المناطق التي تعتبر عمقا جغرافيا لتركيا (شمالي إدلب) والمناطق التي تعتبر عمقا جغرافيا للنظام وروسيا (جنوبي ووسط إدلب).
القراءة التي تعتقد أن محافظة إدلب هي جزء من المنطقة الاستراتيجية التركية في سوريا، هي قراءة خاطئة،
واتفاق سوتشي بين موسكو وأنقرة لم يهدف إلى منع المعارك، وإنما إلى تأجيلها لترتيب بعض الأوراق: ما يهم تركيا هو منع القضاء على “جبهة النصرة” بعدما نجحت تركيا إلى حد كبير في تعديل سلوكها السياسي والعسكري، فالجبهة لم تعد تدعو إلى الجهاد العالمي وإنما تدعو إلى الجهاد المحلي، وهذا السبب الذي جعل الإدارة الأمريكية لا توجه ضربات عسكرية لها، بل على العكس، قامت واشنطن بتوجيه ضربات عسكرية لأعداء الجبهة في إدلب.
أما ما يهم روسيا، فهو السيطرة على الطرق الدولية، وما مسألة السيادة والقضاء على الفصائل المصنفة بالإرهابية وفق الأمم المتحدة الواردة في اتفاق “استانا 6″، إلا ذريعة سياسية ـ إعلامية لتبرير الهجوم العسكري.
جنوبي ووسط إدلب، لايشكلان عمقا استراتيجيا لتركيا، وأنقرة ليست معنية كثيرا في منع النظام السوري من السيطرة على الطرق الدولية في المحافظة، وهي لا تستطيع أن تواجه الروس ولا ترغب في ذلك، لكنها تستطيع بالمقابل أن تمنع الروس من السيطرة على الريف الشمالي لإدلب، هنا يتبلور العمق الاستراتيجي لتركيا، وهذه المنطقة مع منطقة عفرين و “درع الفرات” و “نبع السلام” كافية لتركيا وللمعارضة من تثبيت حضورها.
المسألة ليست من يسيطر على مناطق جغرافية أكثر، فوفق هذا المنظور تبدو المعارضة المسلحة هي الخاسر الكبير والنظام هو الرابح الكبير في عموم سوريا، لكن الأمر ليس كذلك، ولا ينظر إليه من هذا المنظار.
بواسطة/ حسين عبد العزيز