لقد كان قتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للثورة الإيرانية المحافظة؛ من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، في مطلع السنة الجديدة؛ بمثابة إشارة إلى أن هذه السنة حاملة بمزيد من التطورات. لقد كان اهتمام الإعلام العالمي بخبر مقتله منذ لحظة سماعها بشكل متسارع، إشارة ايضًا إلى أي درجة قاسم سليماني هو معروف.
مما هو معلوم أن إيران هي الورقة الرابحة الأكبر في لعبة شطرنج الشرق الأوسط. لا سيما في سوريا ولبنان والعراق واليمن، أي تلك العواصم السنية الأربع التي يتفاخر الإيرانيون بفرض نفوذهم عليها عبر كل العمليات التي تدار نيابة عن إيران، التي تعتبر العقل المدبّر والمنظم لها.
إن استهداف الولايات المتحدة الأمريكية، لشخص يعتبر بمثابة والي إيران في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن، يعتبر انتقالًا لمرحلة جديدة من مراحل الحرب الباردة بين إيران وأمريكا.
يبدو أنها حقيقة واضحة للغاية أننا أمام وضع قدّمت فيها الولايات المتحدة هدية ثمينة لإيران، من حيث نفوذها وسلطتها القائمة في العراق. إن نظر الولايات المتحدة لإيران منذ البداية على أنها عدو، يجعل من الصعب التفكير بأن الولايات المتحدة قد فتحت المجال أمام إيران. لكن حينما نغض طرفنا عن ذلك، ندرك أن الولايات المتحدة قد أفسحت الطريق تمامًا أمام إيران كي تعتبر العراق وكأنه إحدى ولاياتها.
إن سياق مقتل قاسم سليماني مرتبط أصلًا بالعراق، ومكان مقتله هو بغداد. وعلى الرغم من كونه عدوًّا لأمريكا، فإنه قد دخل العراق من البوابة التي وفرتها أمريكا عبر احتلالها للعراق منذ ذلك الوقت وحتى الآن، كان يتصرف على أنه والٍ للعراق ويتمتع بامتيازات التجوال في كافة الأراضي العراقية دون مساءلة من أحد. كان يتحرك وفق الأهداف التي يحددها بشكل تنظيمي مستخدمًا جميع العناصر البشرية، في البلدان التي تولّى فيها مهامًّا، عبر شخصية قوية وعقل استراتيجي وخبرة في الميدان امتدت لسنوات.
في السياق ذاته، كانت التنظيمات التي أسسها كفيلق القدس والحشد الشعبي في العراق، تتبع له مباشرة أكثر من كونها تابعة للسلطات العراقية ذاتها، ولو لاحظتم؛ فإن تلك القوات كانت لا تدخل في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة حتى الآن. لقد كانت الولايات المتحدة كما الجميع؛ الكل يرى ما تقوم به تلك القوات من أنشطة في العراق، وكيف أوصلته إلى مكان لا يصلح العيش فيه، ومع ذلك لم يصدر عن أحد أي صوت.
ما الذي تغير الآن حتى أصبح اسم كـ قاسم سليماني هدفًا للقتل؟
إن النفوذ الإيراني في العراق، بات هاجسًا للعديد وليس فقط للسنة الذين يُعتبرون المظلوم الأكبر هناك، بل حتى الشيعة منذ وقت يعبرون خلال احتجاجاتهم عن ضيقهم ذرعًا بذلك. ولقد كتبت عن ذلك عبر عدة مقالات هنا سابقًا. لقد وصل النفوذ الإيراني في العراق إلى مرحلة أكثر إزعاجًا من الاحتلال الأمريكي ذاته. إن الشباب الشيعي في العراق عبر احتجاجاته واستخدامه شعارات الربيع العربي، من قبيل “الشعب يريد الوطن”، يُظهر أنه يريد الاستقلال من النفوذ الإيراني، للدرجة التي يريد فيها استقلالًا من احتلال أمريكا للعراق. وذلك لأن العراق لم يربح شيئًا من ذلك النفوذ الإيراني المخيم فوقه، بل على العكس كان مكلّفًا للغاية عليه، حيث جعل العراق أكثر فقرًا وأكثر اعتمادًا على دول الخارج لا سيما إيران.
على صعيد قمع الاحتجاجات في العراق، هناك من يتحدث عن دور الميليشيات التي يتزعمها قاسم سليماني في قمع تلك الاحتجاجات، فضلًا عما تقوم به القوات العراقية الحكومية. في النتيجة، إن مقتل قرابة ٨٠٠ خلال قمع الاحتجاجات، غالبيتهم من الشيعة هو زيادة في حجم الغضب تجاه كل من إيران والولايات المتحدة على حد سواء.
إن استهداف الولايات المتحدة للحشد الشعبي واستهداف الأخير للسفارة الأمريكية، يخرج الوضع من كونه احتجاجات شعبية غاضبة من الطرفين، إلى صراع متبادل بين الولايات المتحدة وإيران نفسيهما. وليس من العدل أن نقول أن ذلك مجرد صورة فحسب. منذ زمن طويل كانت هناك أبعاد بالنسبة للولايات المتحدة على الساحة العراقية، تعوّل على ما تقوم به إيران لنفسها، وصولًا لانعدام تحقق الوحدة العراقية وجعلها أمرًا غير قابل للتطبيق والاستمرارية. كانت استراتيجية أمريكية تدور حول فتح الطريق أمام الشيعة ضد السنة، لكن الواضح حتى الآن هو أنّ التأثير القومي الإيراني قد دفعها بعيدًا عن القدرة على إعادة تجميع الشيعة.
علينا أن لا نتجاهل في الوقت ذاته، أن دفع علاقة الولايات المتحدة ضمن سياستها في العراق، مع إيران، إلى احد الانهيار؛ قد لعب فيه ترامب دورًا مهمًّا للغاية. ترامب ذاك المعروف بكسر العرف والعادات، قد رفع مستوى غير متوقع حقيقة نحو السياسة الإيرانية المعتادة في العراق، حيث قطع يدها ورجلها ليس في العراق فحسب بل في عموم الشرق الأوسط. وبالتأكيد سيكون لذلك تبعات ستفرض تغيّرًا جديدًا وجذريًّا في نمط العلاقات القائمة حتى الآن وبشكل كامل.
ولذلك أصلًا اعترض بعض المسؤلون الأمريكيون على قرار قتل قاسم سليماني، والمخاطر التي حذّر منها بعض أعضاء الكونغرس قد جسدت في الحقيقة ما لم يُتحدَّث أو يُصرّح به حول السياسة الأمريكية والإيرانية بالعراق، وبنفس الوقت كشفت الستار عن طبيعة النتائج التي يستفيد منها كلاهما أي أمريكا وإيران. المسؤولون الأمريكيون الذين اعترضوا على مقتل سليماني في العراق، بدؤوا في الحديث الآن عن كيفية تحقيق الأمان للجنود الأمريكيين في العراق. وهذا بدوره حتى الآن يكشف مستوى الأمان وبفضل من كان يتحقق للجنود الأمريكيين أنفسهم.
وفي هذا السياق يبدو من الضروري أن نتذكر، بأنّ الولايات المتحدة لم تقتل سليماني، بسبب المجازر التي تسبب بها هو وإيران في العراق، أو بسبب الجرائم الطائفية او السياسة التي يمشي بها باسم بلده، بل السبب هو لأن سليماني وإيران تجرؤوا على مهاجمة السفارة الأمريكية وبعض الجنود بالعراق. ومنذ هذا الحين على الجميع أن لا ينتظر من أمريكا خطوات جديدة تصب في مصلحة العراقيين أو تكترث لصالحهم.
.