في 2 يناير الحالي، مزّقت عدّة صواريخ من طائرة أمريكية من دون طيّار جسد قاسم سليماني، و9 آخرين معه من الحرس الثوري والحشد الشعبي الموالي لإيران في العراق على رأسهم أبو مهدي المهندس. وعلى وجه السرعة، توالت ردود الأفعال الإقليميّة والعالمية، وتراوحت بين النأي بالنفس وبين المطالبة بالامتناع عن التصعيد، باستثناء تركيا التي غابت عن المشهد وانتظرت حتى اليوم التالي لتُبلور ردّها الرسمي الأوّل على العملية.
وزارة الخارجية التركية أصدرت بياناً قالت فيه إنّها قلقة من التصعيد الحاصل، وترفض تحويل العراق إلى ساحة حرب لأطراف النزاع، مشيرةً إلى أنّ أي تصعيد سيؤدي إلى مفاقمة حالة عدم الاستقرار. وأكّدت وزارة الخارجيّة في بيانها بأنّ تركيا ضد التدخّلات الخارجية والاغتيالات والمذهبيّة، داعيةً الأطراف المعنيّة إلى ضبط النفس. بيان الخارجيّة التركية تمّت صياغته باحترافية عالية للتعبير عن موقف متوازن ليس لناحية دعم الطرفين أو لترك مسافة بينهما بقدر ما كان بمثابة موقف مضاد لهما.
البيان تجاهل ذكر سليماني بالاسم، وأشار إلى السياسة المذهبية التي كان ينشرها ويغذّيها عبر فيلق القدس والحرس الثوري في المنطقة وهو الأمر الذي كان له دور في ولادة تنظيم “داعش”، كما أنّه أشار إلى ضرورة تحييد العراق وعدم تحويله إلى ساحة إلى تصفية حسابات وهو ما ظل الجانب الإيراني يمارسه لسنوات طويلة الأمر الذي أضرّ بشكل كبير بمصالح تركيا في العراق. تلا ذلك اتصال بين الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ونظيره الإيراني حسن روحاني قدّم فيه التعازي له وحثّه على عدم التصعيد مع الولايات المتّحدة الأمريكية.
وفي تصريح لاحق له، قال وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو إنّ الرئيس التركي أجرى اتصالات هاتفيّة مع نظرائه في عدد من الدول من أجل خفض حدّة التصعيد بين طهران وواشنطن، مؤكّدا في نفس الوقت على ضرورة تحييد العراق.
قراءة التحرّكات الدبلوماسية التركية في هذه الأزمة تشير إلى ثلاثة أمور تحديداً.
الأمر الأوّل هو أنّها ليست جزءاً من الصراع الجاري بين إيران وحلفائها من جهة والولايات المتّحدة وحلفائها من جهة أخرى، وليس لديها مصلحة في زجّ نفسها في وسط هذه المعركة القائمة بينهما. الثاني هي أنّها ليست معنيّة بحصول تصعيد إيراني- أمريكي، فهي تحاول النأي بنفسها عنه من خلال التركيز على دورها في حث الطرفين على التهدئة. أمّا الثالث وهو الأهم، فيتمثّل في محاولة التموضع من أجل الاستفادة من هذا الصراع عندما يكون هناك فرصة لتحقيق ذلك.
إذا ما عدنا إلى الموقف التركي من جولات التصعيد الأمريكية- الإيرانية التي حصلت في الخليج العربي في الفترة بين مايو وسبتمبر 2019، سنلاحظ أنه لم يكن هناك مواقف تركيّة يستحق الوقوف عندها في هذا الصدد وذلك بالرغم من أنّ أنقرة كانت قد أصبحت لاعباً مهمّاً في معادلة أمن الخليج منذ العام 2010 وذلك بحكم تواجدها في قطر.
في حقيقة الأمر، عمدت تركيا إلى الحفاظ على مسافة في الصراع القائم بين إيران والسعودية خلال المرحلة الماضية، واستجابت كذلك للضغوط الأمريكية بالالتزام التام بالعقوبات المفروضة على إيران، وقد أدّى ذلك إلى مكافأة أنقرة بتخفيض الرسوم المفروضة على صادراتها من الصلب إلى الولايات المتّحدة الأمريكية. علاوة على ذلك، ثمّة أولويات داخلية تركية مرتبطة بمصالح الدولة وأمنها القومي تسمو على صراعات الآخرين الإقليمية، ولذلك فهيّ تحدّد ترتيب الملفّات التي تعني الجانب التركي إقليمياً ودولياً.
الملف الليبي وملف شرق حوض البحر الأبيض المتوسط على وجه التحديد يحتل أولوية الآن في الأجندة التركية. تركيز أنقرة ينصب بشكل مباشر على هذين الملفين حالياً، ومن المتوقع أن يبقى الامر كذلك لمدّة غير قليلة من الزمن. ولذلك يمكن تفسير تأخرّ الموقف التركي من مقتل سليماني من هذا الباب بالتحديد.
الأكيد أنّه وبغض النظر عمّا قد يراه البعض في العلن عن تفاهم محدود أو تعاون جزئي تركي-إيراني، فإنّ أنقرة حذرة جداً من التحركات الإيرانية في المنطقة سيما وأنّها تتناقض مع مصالح تركيا سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو حتى اليمن، ولولا المواقف السعودية المتهوّرة والغبية في كثير من الأحيان، لاسيما بعد العام 2017، لأعفى ذلك أنقرة من أخذ الحسابات الإيرانية بعين الاعتبار تماماً.
لطالما كان هناك تفاهم أمريكي- تركي على الحد من نفوذ إيران الإقليمي، وبالرغم من أنّ هذا الأمر لم يتطور إلى برنامج عمل مشترك بينهما لأسباب ليس هذا مجال نقاشها، إلا أنّه لا ينفي أنّ تكون أنقرة تنظر بعين الرضى سراً إلى مقتل سليماني. لكن ماذا عن تداعيات هذا العمل على موقع ودور تركيا إقليمياً؟
هناك من يشير إلى أنّ مقتل سليماني سيُحدث تخلخلاً في نفوذ طهران الإقليمي على الأقل على المدى القصير، وهو ما قد يفسح المجال لأنقرة للاستفادة من أي تراجع في دور الحرس الثوري الإيراني في المنطقة. عمل الحرس الثوري بقيادة سليماني لوقت طويل على تقويض نفوذ ومصالح تركيا في سوريا والعراق والمنطقة بشكل عام، كما كان له عدّة مواقف عدائية من أنقرة، وهدّد سابقاً باستهداف رادار الناتو الذي استضافته تركيا قبل سنوات.
قد يؤدي خروج القوات الأمريكية من العراق إلى دفع سنّة وأكراد العراق للتقارب بشكل أكبر مع تركيا من أجل محاولة موازنة نفوذ إيران التي تمثّله الميليشيات الإيرانية الحاكمة في العراق، لكنّ من الممكن أن يؤدي الخروج الأمريكي التام من بلاد الرافدين إلى وضع العراق تحت النفوذ الإيراني المباشر بشكل كامل، وهذا قد لا يصبّ في صالح أنقرة على الإطلاق.
أمّا في حال التصعيد الأمريكي- الإيراني، فهناك من يرى بأنّ ذلك قد يعيد ذلك القيمة الاستراتيجية للقواعد العسكرية في تركيا على اعتبار أنّ أنقرة ستكون المكان الوحيد الذي لن يتجرّأ الإيرانيون ربما على استهدافه مقارنة بجيرانها في الخليج. لا يعني ذلك أنّ تركيا ستفتح قواعدها لضربات داخل إيران أو لغزو، وإنما ستكون واشنطن بحاجة إلى استخدام القواعد ربما للدعم اللوجستي، وهو ما سيراه المسؤولون الأتراك بمثابة فرصة ثمينة لمحاولة انتزاع تفاهمات مع ترامب في الإقليم.