مع المفاوضات غير المباشرة التي استضافتها موسكو ورعتها مع أنقرة بين الفرقاء الليبيين، يكون الثنائي التركي – الروسي قد سجل هدفاً في مرمى الأوروبيين في قضية يعدونها من صلب اهتماماتهم وفي قلب مجالهم الحيوي.
ورغم أن حفتر غادر موسكو دون أن يوقع على اتفاق وقف إطلاق النار تحت ضغط داعميه فيما يبدو، فإن التفاهمات التركية – الروسية قد أثبتت فعاليتها في الملف الليبي رغم أن الطرفين كانا حتى وقت قريب بعيدين تماماً عنه وعن إمكانية التأثير في مساره.
ربما لم تؤد التفاهمات التركية – الروسية في سوريا إلى حل نهائي، لكنها بالتأكيد حققت مصالح حقيقية للطرفين، باعتبارهما الضامنَيْن الأهم أو الحليفَيْن الأكبر لطرفي النزاع السوري. ورغم الفروقات العديدة بين سوريا وليبيا، إلا أن الطرفين استطاعا مرة أخرى أن يثبتا نفسيهما كلاعبَيْن رئيسين لا يمكن تجاوزهما.
التأثير الأكبر والجهد الأولي كانا لأنقرة، ثم حصدت موسكو معها النتائج شبه النهائية. ذلك أنه على مدى سنوات طويلة ثم منذ هجوم حفتر الأخير على طرابلس، بقيت المواقف الدولية والإقليمية من الأزمة الليبية خجولة وهادئة وغامضة في أحسن الأحوال، ثم تحركت فجأة على وقع الاتفاقين اللذين وقعتهما تركيا مع حكومة الوفاق الليبية والذي تضمن ثانيهما إمكانية إرسال قواتها العسكرية إلى ليبيا.
صنعت تركيا الفارق من خلال الردع المعنوي الذي أدى إليه توقيع اتفاقية التعاون العسكري، ثم بالتلويح بإرسال قوات عسكرية يمكن لها أن تعدل ميزان القوى المختل لصالح حفتر، ثم بحديث الرئيس التركي عن بدء وصول قوات بلاده إلى الأراضي الليبية، ثم بجهد دبولماسي مكثف شمل زيارات واتصالات وتواصلات مع كل من حكومة الوفاق وتونس والجزائر وقطر وروسيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وغيرهم، ثم توِّج كل ذلك بالإعلان المشترك مع روسيا لوقف إطلاق النار.
لم تكن تركيا لاعباً مؤثراً في الملف الليبي لكن كل ما سبق صنع منها ذلك وأصبحت طرفاً رئيساً في مؤتمر برلين المنتظر. ولم تكن روسيا فاعلاً أساسياً، إلا من خلال مجموعات خاصة (فاغنر) لكنها اليوم عرّابة التفاهمات الليبية – الليبية ووقف إطلاق النار.
في المقابل، فإن أوروبا التي تعتبر إفريقيا ودول المتوسط من ضمن إرثها الاستعماري الذي تمارس فيه وصائيتها التقليدية، تبدو وقد فقدت المبادرة بعد أن دخلت على خط الحل السياسي متأخرة نوعاً ما. فزيارة وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا رفقة المنسق الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أجِّلت، والحديث عن مؤتمر برلين بقي هلامياً دون تحديد موعد بعينه إلا بعد عقد لقاء موسكو، وفي ذلك دلالة لا تخفى.
ولعل أحد أهم أسباب ضعف الموقف الأوروبي الانقسامُ الواضح الذي تعانيه دوله إزاء ليبيا وحالة التجاذب بين فرنسا وإيطاليا على وجه التحديد بما حال دون بلورة الاتحاد رؤية مشتركة للقضية وبالتالي فقد إمكانية لعب دور مؤثر وفاعل، في مقابل تفاهمات تركية – روسية تدرك المصالح المشتركة رغم الاختلافات في الرؤى.
الأمر ليس معادلة صفرية بالتأكيد ولم تغلق التفاهمات بين أنقرة وموسكو الأبواب تماماً أمام الأوروبيين الذين ما زالوا يملكون أوراقاً عدة. فمخرجات موسكو – مهما كانت – لن تكون قادرة على سحب البساط تماماً من الدور الأوروبي، وسيبقى مؤتمر برلين محطة مهمة قد تبني على موسكو وقد تتجاوزها. لكن بروكسل لا يسعها أبداً تجاهل الدور الروسي المتنامي في المنطقة إذ باتت موسكو صانع سياسات بشكل واضح ومُتَحَدٍّ في منطقة يعدُّها الأوروبيون خالصة لهم، كما أن تركيا باتت لاعباً لا يمكن تجاوزه في المعادلة الليبية بعد كل ما حصل.
ما زال هناك الكثير من التحديات القائمة، وفي مقدمتها عدم تطابق الرؤى بين أنقرة وموسكو، وكذلك غموض الموقف الأمريكي حتى اللحظة، ودور الأطراف الخارجية وخصوصاً تلك الداعمة لحفتر والتي فيما يبدو حالت دون توقيعه على الاتفاق، فضلاً عن اختلاف المسألة الليبية جوهرياً عن السورية، إذ لا تملك روسيا هنا حصراً قرار حفتر ولا تحتكر الميدان أو تسيطر عليه، كما أن تركيا لا تملك تماماً قرار حكومة الوفاق رغم العلاقات المتميزة والاتفاقات الأخيرة والدعم الموعود.
ولذلك، ولأسباب أخرى، سيكون ثبات وقف إطلاق النار لمدة طويلة وعلى المدى البعيد تحدياً كبيراً، لا سيما في ظل التجارب السابقة مع حفتر تحديداً واستمرار الخلافات بين الأطراف الخارجية المتدخلة.
أخيراً، يمكن القول إن التدخل التركي المتدرج وفق الخطوات سالفة الذكر والتفصيل ساهم إلى حد كبير في وقف إطلاق النار، وهو الهدف الرئيس الذي سعت له أنقرة. وإذا ما قُيِّض لمؤتمر برلين أن يُعقد وفق المعطيات الحالية، فإن ذلك سيكون دفعة كبيرة لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً من جهة، وإمكانات الحل السياسي من جهة أخرى.
وأما التخوفات من مواجهة إقليمية، لا سيما بين تركيا ومصر، فلا تعدو كونها مبالغات من جهة ومحاولات للضغط على تركيا من جهة أخرى. بيد أن أنقرة قد تخطت كل ذلك من خلال الاتفاقات الموقعة وبدء إرسال القوات (بأعداد قليلة بغية التنسيق حالياً) وكذلك بمدى المشروعية التي بات يحظى بها دورها في الملف.
صحيح أن بعض الدول الداعمة لحفتر من أهم منافسي أنقرة وخصومها في الإقليم وبالتالي يعنيهم إضعافها واستنزافها، لكن سيناريو الحرب الإقليمية غير مرجح ولا هو مفيد لأيٍّ من الأطراف. الأكثر منطقية هو أن تسعى تلك الجهات لاستنزاف تركيا في ليبيا بشكل غير مباشر من خلال المجموعات الخاصة أو المرتزقة أو على يد قوات حفتر بشكل مباشر في حال أرسلت تركيا أعداداً كبيرة من القوات وانخرطت في القتال.
وهو ما تعيه أنقرة تماماً ولذلك فقد كانت خطواتها محسوبة ضمن رؤيتها الواضحة التي تريد: التدخل بالحد الأدنى بما يخدم صمود حكومة الوفاق لتشارك في مؤتمر برلين بشرعية مكتملة وبما يسهم في الحل السياسي بناء على حوار ليبي – ليبي، وهو ما يبدو أن أنقرة حققت الجزء الأكبر منه دون الحاجة لإرسال قوات كثيرة إلى ليبيا، وهو ما أرجِّحُ أنه سيستمر على نفس النسق في المستقبل القريب، إلا أن تحصل مفاجآت كبيرة في المشهد الميداني.