إن المؤتمر الذي سيعقد في برلين بمبادرة من ألمانيا، من أجل تحقيق وقف إطلاق النار في ليبيا والمساهمة في توفير حل سياسي؛ كان من الممكن أن يكون مؤتمرًا بلا قيمة وكغيره من المؤتمرات السابقة، لو أن حفتر لم يمتثل لوقف إطلاق النار في اللحظة الأخيرة. لأن حفتر الذي يشن هجماته على طرابلس وقد كاد أن ياخذها، لا يريد طرفًا آخر يفاوضه ويحكم معه ليبيا.
إن حفتر يريد السيطرة على ليبيا كاملة بعيدًا عن أي نوع من الحوار، ولولا دخول تركيا إلى هناك لكان اليوم ربما قد حقق ما يريده بالفعل. لا يوجد حتى سبب واحد لتبرير ما يشنه حفتر من عدوان، بل السبب الوحيد الذي يجعله ماضيًا بهذا العدوان هو قوة السلاح الذي بين يديه فحسب.
في السياق ذاته أيضًا، لو ان تركيا لم تقم بعقد اتفاقية مع حكومة الوفاق الشرعية في ليبيا، لكن قد تحقق لحفتر فعلًا ما يريد، دون الحاجة لمؤتمر برلين وغيره.
أما الآن فإن الاجتماع في برلين من أجل ليبيا هو أمر منطقي. لأن حفتر يعلم أنه الآن أمام قوة لا يمكنه تجاوزها، ومنذ هذه الساعة هو يعلم أنه لن يتمكن أصلًا من تدميرها. إذن لا احتمال لعدم مشاركته في مؤتمر برلين، هذا فضلًاعن أنّ تركيا له بالمرصاد في حال خروج الأمر عن سياقه وطريقه الصحيح.
لقد غيرت تركيا جميع الموازين على الساحة، عبر دخولها. كان المجتمع الدولي يتباكى بدموع التماسيح مكتفيًا بمشاهدة حكومة طرابلس التي اعترف بها، وهي تُدمّر من قبل قوة غير معترف بها أصلًا. بل على الرغم من إعلان حفتر كمجرم حرب من قبل الأمم المتحدة، فإنها لم تقم بفعل شيء يمنعه من الاستمرار بإجرامه. وحتى المساعدة التي طلبتها حكومة الوفاق من تركيا، كانت قد طلبتها أيضًا من الأمم المتحدة، إلأ أنها أي الأمم المتحدة حينما توانت عن تقديم الدعم اللازم لحكومة الوفاق، لبّت تركيا ذلك النداء على الفور.
إن أعلى ممثل للقيم والأخلاق الدولية في برلين ستكون تركيا. ما تريده فقط هو إيقاف عدوان حفتر، وتسليم ليبيا لليبيين. وحين توجيه نداء حول خروج كل القوى الأجنبية من ليبيا، فإن أول دولة ستدعم هذا النداء هي تركيا، بشرط قبوله بشكل حقيقي من كل الدول.
أريد أن أسرد هذه الحقيقة كنوع من التذكير للإدارة المصرية، التي تقول أن حدودها الطويلة مع ليبيا تفرض عليها أن تكون حاضرة بشكل مباشر: إن وجود حدود طويلة مع دولة ما لا يمنحك الحق أبدًا باحتلال تلك الدولة، وإن ذلك بالتأكيد لا يمنحك الحق أبدًا بتصدير نموذج الانقلاب الذي تحكمين به نحو تلك الدولة.
حين التصرف من قبل الإدارة المصرية على هذا النحو، فإن السيسي يكون قد اشترك في الجريمة مع حفتر، ذلك المجرم الذي يقوم بارتكاب أنواع الجرائم ضد شعبه. إن النموذج الذي يسعى لفرضه في ليبيا على يد حفتر، لا يحمل أي قيمة بالنسبة للشعب، حيث يقومون بتنفيذ المجازر بحقه على مرأى ومسمع، فضلًا عن اعتقاله ومطاردته واحتلال أراضيه.
الجلوس مع السيسي والأسد على الطاولة؟
حينما نقول لوسائل الإعلام المصرية التي اتخذت ذريعة من الاتفاق التركي-الليبي، لشنّ حملة عداء غير مسبوقة ضد تركيا؛ “إن تركيا ليست عدوًّا لأي دولة عربية أو مسلمة أيًّا كانت، وليس هناك بالأصل أسباب تقتضي وجود عداء بين البلدين، والاتفاق الذي تم بين تركيا وليبيا، تصوّروا أنه ذاته قد تم مع مصر”؛ فإننا نقصد الإشارة من ذلك للموقف غير العقلاني للنهج الذي يحكم مصر. ولو كان هناك فعلًا إدارة عاقلة في مصر، لما راحت تتفق مع الروم واليونانيين، فقط من أجل غاية واحدة؛ هي النكاية بتركيا، على حساب الإضرار بالمصالح المصرية. إن النظام المصري الآن يقوم بعقد اتفاقات مع الآخرين على الرغم من أنها تضر بمصالح مصر، نكاية بتركيا فحسب. إن هذا لن يفيد مصر في شي على الإطلاق، بل يضرها.
علاوة على ذلك، إن الاتفاق التركي-الليبي، يعيد الحقوق التي تم سلبها من المصريين، عبر الاتفاق الذي تم عقدهم باسم بلدهم مع اليونان وقبرص الرومية.
حينما قلنا ما سبق، قفز العديد متحدثًا عن أننا نادمون على سياساتنا السابقة حتى الآن، وأننا أمام منعطف تام. بل لم يتم الاكتفاء بهذا فحسب؛ بل هناك من قدّم التوصية والنصحية بالجلوس حتى مع الأسد، بما أن المنعطف موجود وباب التوبة لا يزال مفتوحًا.
كم يقدّمون قرابين من الأرواح من أجل الجلوس مع ديكاتوريين تتقاطر الدماء من أيديهم؟
ما قلته سابقًا حيال مصر، فإنني قصدت مخاطبة الإعلام المصري وكذلك الشعب المصري. وما نقوله باسم تركيا، لا يحمل أي شعور عدائي تجاه الشعوب سواء في مصر أو ليبيا، بل إنه عبارة عن تذكير بالإرث التاريخي المشترك، والمصالح المشتركة أيضًا. لكن مع الأسف، يبدو أن النظام المصري لا يمثّل مصالح الشعب المصري إطلاقًا. إن الموقف التركي من السيسي والأسد، لا يعني أنه بأي شكل من الأشكال ضد الشعب المصري والسوري.
أيّ طاولة سيتم الجلوس عليها مع الأسد، ذلك الظالم الذي لا تزال يديه تقطر دمًا، الذي قام ولا يزال يقوم حتى اليوم بارتكاب المجازر تلو المجازر بحق شعبه وأبناء جلدته، على أي شيء سيتم التفاوض معه، وماذا سيُطلب منه أصلًا؟.
كذلك الانقلابيّ السيسي الذي لا توجد مكيدة ضد تركيا إلا وكان شريكًا فيها، والذي لا يثق بوعوده حتى مؤيدوه؛على ماذا ستتفاوض معه تركيا ولماذا؟
الذين يدعوننا للجلوس مع السيسي من حين لآخر، ألا يعلمون أنه لا يمكن الوثوق بأي شكل من الأشكال، بأحد قام بقتل رئيسه الشرعي المنتخب قتلًا بطيئًا وهو في السجن، وارتكب مجازر بحق شعبه، وسجن ما يقرب من مئة ألف معتقل سياسي حتى الآن، يذوقون كل يوم كل أنواع التعذيب؟ إنْ كانوا هم يثقون بكلام ذلك الشخص، فإنهم قد وضعوا أنفسهم في موضع عدم ثقة.
حيث يكونون بذلك فقط، قد تعرّوا مظهرين بؤسهم الضميري والإنساني والأخلاقي.
.