لو لم يعلن المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن أن بشار الأسد فقد صفة القائد الذي “سينقل سوريا إلى مستقبل ديمقراطي وتعددي يسوده السلام” قبل ساعات من وصول الرئيس الروسي فلادمير بوتين إلى إسطنبول قادما من زيارة خاطفة لدمشق، لكنا قلنا إنه قد يحرك مشروع وساطة روسية جديدة بين الجانبين.
قيادات العدالة والتنمية كانت تراهن على تغيير سياسي سريع في ملف الأزمة السورية لم يحصل. المعارضة التركية من ناحيتها تراهن على نظام بشار الأسد ليخرج تركيا من أزمتها في الملف السوري ويحمي سوريا موحدة متماسكة يسقط معها المشروع الكردي الانفصالي. فهل يملك بشار الأسد هذا الدعم وهذه الفرص أمام تشابكات المشهد في سوريا؟
أكثر المتحمسين للحوار بين أنقرة ودمشق هو زعيم حزب “وطن” اليساري دوغو برينشاك الذي كان معارضا شرسا للعدالة والتنمية حتى الأمس القريب وبات اليوم مناصرا قويا بسبب التحول الواضح في طريقة تعامل السلطة السياسية مع ملفات إقليمية ساخنة بينها موضوع قبرص وشرق المتوسط والعلاقات التركية اليونانية والأزمة الليبية.
برينشاك سبق وقاد عملية اتصال بين حزبه والقيادة السياسية في العاصمة السورية معلنا استعداده للعب دور الوسيط بين الحكومة التركية والنظام السوري على طريق المصالحة وتحسين العلاقات. هو من أشد المؤيدين للتفاهمات التركية الروسية الإيرانية في سوريا. ومن أبرز المعارضين للعلاقات التركية مع الغرب وحلف شمال الاطلسي. لذلك نرى شعبيته مرتفعة في دمشق خصوصا وأنه وضع صحيفته اليومية تحت تصرف هذه السياسات وفتح الباب أمام مساهمة أقلام سورية وتركية تتبنى هذا التصور في صحيفة الحزب اليومية.
برينشاك كان يركز على فكرة الوساطة الإيرانية أكثر من الحراك الروسي على خط التقارب بين أنقرة ودمشق. عرض الوساطة التركية بين طهران وواشنطن بعد الانفجار الأخير قد يكون عربون شكر لإيران على وساطتها
هذه التي لم نسمع شيئا عنها منذ أسابيع والتي كانت تقوم على توسيع رقعة التفاهمات في شمال غرب سوريا وطرح مسألة العفو العام وتبادل الأسرى والتنسيق في الملف الكردي بشقه السوري.
أصوات أخرى في المعارضة التركية وبينها قيادات في حزب الشعب الجمهوري اليساري كانت تعطي الأولوية للجهود الروسية بدلا من الإيرانية لتقود عملية المصالحة بين حزب العدالة والنظام السوري. تحركات الكسندر لافرنتييف مبعوث بوتين المفوض في الملف السوري كانت تتم في هذا الإطار لولا الدخول الأميركي العسكري السريع على الخط في شرق الفرات والذي قلب حسابات الأطراف رأسا على عقب.
آخر مواقف قيادات المعارضة التركية بهذا الخصوص جاءت من قبل رئيسة “حزب إيي” التركي، ميرال أكشينار، التي قالت إنه ليس من الصائب اتخاذ الحكومة التركية مظهرا عدائيا من نظام الأسد في وقت تجري فيه اتصالات دبلوماسية سرية معه”. أكشينار أعربت عن استعدادها للذهاب إلى سوريا، والجلوس مع النظام من أجل مناقشة إعادة اللاجئين إلى سوريا، في حال عدم جاهزية الحكومة لذلك.
وتساءلت أكشينار: على ماذا حصلنا نحن بعد التجربة السورية؟ لقد أنفقنا نحو 40 مليار دولار على ملايين اللاجئين، وعرضنا جيشنا لحروب أهلية في سوريا ليس لنا بها ناقة ولا جمل، ولا نعلم متى سننتهي منها. ” يا سيد أردوغان أنا مستعدة للذهاب إلى دمشق ومقابلة الأسد لحل هذه المشكلة”.
التقارب التركي الروسي في سوريا أعطى نظام الأسد أكثر مما كان يتوقع ويريد. المشكلة الآن أنه هو الذي يتغذى باستمرار من التوتر بين أنقرة وموسكو في إدلب ويحاصر “قسد” بقرار الانفتاح عليه لأن واشنطن لن تستطيع أن تقدم أكثر مما أعطته حتى اليوم. المعارضة التركية تقرأ الأمور من هذه الزاوية لذلك هي متمسكة بفكرة الحوار والتفاوض مع نظام الأسد.
يفوت المعارضة التركية وقياداتها أن حزب العدالة والتنمية اتهم النظام في دمشق أكثر من مرة بارتكاب مجازر ضد المدنيين والتحرك بما يخالف كل القوانين والمعاهدات الدولية الإنسانية. وبذلك تكون أنقرة قد حسمت موقفها في موضوع احتمال تغيير سياستها السورية حيال دمشق وأن ما يقال حول اتصالات بعيدة عن الأضواء لن يعني فتح الأبواب أمام انفتاح تركي باتجاه النظام.
للتذكير فقط أردوغان هو نفسه الذي قال قبل أشهر حول كيفية تفعيل اتفاقية أضنة في ظل عدم وجود علاقات مباشرة مع النظام السوري “لا يمكن لنا أن نقيم علاقات رفيعة المستوى مع شخص قتل أكثر من مليون شخص، وهجّر ملايين آخرين”. السيناريو الثلاثي قد يكون عاد مجددا إلى الواجهة مما يعني أن الرئيس التركي لن يعطي المعارضة ما تريده لناحية التواصل مع الأسد بقبول ورضى روسي أميركي.
إبراهيم قالن كان يردد قبل أشهر أن اختلاف تركيا مع روسيا وإيران حول مستقبل الأسد، لا يعني عدم وجود إمكانية للعمل في القضايا الأخرى التي تم التفاهم عليها خلال الآونة الأخيرة. عندما نتحدث عن مرحلة انتقال سياسي، تبقى مسألة بقاء الأسد خارج
هذا المشهد، وقد أكّد ذلك رئيسنا عدّة مرات. المعارضة التركية تنسى أن قالن هو نفسه الذي قال إن تواصل بلاده مع نظام الأسد غير وارد” لا يمكن لظالم أراق دماء شعبه أن يساهم في إنشاء سوريا الجديدة”.
الواضح اليوم على ضوء رسائل القيادات السياسية التركية في الحكم هو أن حزب العدالة يراهن على روسيا لقبول ودعم خطة المرحلة الانتقالية في سوريا عبر إبعاد تدريجي لنظام الأسد، ويبدو أن واشنطن تسير في نفس الاتجاه لا بل هي قد تكون أصلا دخلت في مفاوضات وتفاهمات مع روسيا وتركيا بمنحهما الأفضلية في سوريا مقابل إخراج إيران من المشهد. القاسم المشترك الذي قد يوحد مواقف الحزب الحاكم في تركيا وقوى المعارضة قد يكون قبول الطرح الروسي بالعودة إلى صيغة اتفاقية أضنة معدلة ترضي اللاعبين الروس والأتراك والأميركيين وتلزم القوى المحلية بها.
أقلام مقربة من الحزب الحاكم في تركيا كانت تردد بأن على قيادات المعارضة أن تستيقظ على حقيقة أن الدبلوماسية القائمة على القوة الحقيقية على الأرض ضرورية لحل الأزمة السورية، وليس مفاهيم رومانسية عن الدبلوماسية. ما يجري اليوم هو خليط من التركيبتين.. القوة الميدانية على الأرض إلى جانب تجيير دبلوماسية الآخرين لصالح الأهداف التركية.
تمسك المعارضة التركية ببشار الأسد سببه افتقادها لخيار آخر بديل في سياستها السورية، المبنية على الاستفادة من أخطاء الحزب الحاكم بعيدا عن رصد وقراءة متغيرات التوازنات الإقليمية الميدانية والسياسية في التعامل مع الملف السوري.