اتجهت الأنظار الأحد الماضي إلى العاصمة الألمانية برلين لتحديد مصير ليبيا بعد محادثات موسكو التي لم تُكلَّل بنجاح يُذكر، مع أنه لم يكن هناك تعويل كبير على تحقيق قفزة في مسار الأحداث فيها، حتى قبل انطلاق أعمال مؤتمر برلين الليبي، إذ خيّم التفاؤل الحذر على جميع الأطراف المشاركة، بما فيها ألمانيا الدولة المضيفة.
وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أنّ طرفي النزاع في ليبيا لم ينجحا في بدء “حوار جدي” خلال مؤتمر برلين. وصرح للصحافيين في مطار العاصمة الألمانية “كان المؤتمر مفيداً جداً، لكن من الواضح أننا لم ننجح حتى الآن في إطلاق حوار جدي ودائم” بين قائد “الجيش الوطني” خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج. وأضاف لافروف “خطت الأطراف الليبية خطوةً صغيرةً إلى الأمام، مقارنةً بما حدث خلال اجتماعات موسكو الاثنين الماضي، عندما رفض حفتر التوقيع على اتفاق لوقف النار، قائلاً إنه بحاجة إلى مزيد من الوقت”.
وكما حدث في موسكو، لم يجتمع السراج وحفتر في العاصمة الألمانية أيضاً، حيث وعد قادة الدول الرئيسة المعنية بالنزاع في ليبيا باحترام حظر الأسلحة الذي قررته الأمم المتحدة عام 2011، ورفض أي “تدخل” أجنبي في النزاع.
ويمكن القول باختصار، بعد اختتام مؤتمر برلين الذي استمر ليوم واحد، إنّ التصريحات كانت جيدة ولكن لا شيء ملموس، وتبقى مسألة التطبيق والتنفيذ معلقةً في الهواء، كما أن الأطراف الدولية المشارِكة في النزاع الليبي مدعوة إلى التخلي عن التدخل (بالطبع، هذا لن يحدث).
وفي ما يخص السلال الست الرئيسة التي وردت في البيان الختامي لمؤتمر برلين، ويمكن مراقبة نتائج تنفيذها في الواقع العملي:
1. وقف إطلاق النار (يكاد يكون من شبه المستحيل تحقيقه بسبب القيادة المركزية الضعيفة للغاية لدى كلا الجانبين).
2. حظر الأسلحة (قد يمكن تحقيق ذلك من خلال التحكم والسيطرة على الحدود البحرية، لكن الحدود البرية الطويلة لليبيا ستبقى مكشوفة).
3. بداية العملية السياسية (التي لا يمكن التحدث عنها ما لم يجتمع طرفا النزاع السراج وحفتر وجهاً لوجه).
4. إصلاح قطاع الأمن (بشكل عام ليس من الواضح كيفية تنفيذه).
5. الإصلاح الاقتصادي (يعتمد على من الذي يتحكم في صادرات النفط ويتلقى المال).
6. الامتثال للقانون الإنساني (لا يمكن لأي مؤتمر دولي، لا سيما في أوروبا أن يُختتم من دون عبارات مماثلة).
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه عند الحديث عن الأزمات في الشرق الأوسط، ينبغي التمييز بين الحالتين “السورية” و”الليبية”، إذ حاول متابعون الربط بين الملفين، ولعل أهم الأسباب لذلك يعود إلى الدورين الروسي والتركي في الحالتين، ما دفع البعض إلى التشبيه بين مسار أستانا السوري ومسار برلين الليبي الذي قد يبدأ بعد اختتام مؤتمر برلين الأول.
التسوية السورية هي امتحان لقدرة موسكو، أكبر الأطراف الإقليمية الفاعلة، على تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط (الكلاسيكية)، وهذه حالة محلية بحتة وتأثيرها كبير ولكنه محدود.
أما التسوية الليبية، فهي قصة مختلفة تماماً، فإضافةً إلى روسيا ودول الشرق الأوسط، تشارك بفعالية أطراف دولية بارزة تملك مصالح جادة في مجال الطاقة مثل فرنسا وإيطاليا وإسرائيل. ونصبح هنا بالتالي أمام نهج آخر لتشكيل نظام فوق إقليمي، يضم الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي وجزء كبير من أفريقيا.
وإذا كان من الممكن خلق توافق داخلي في مثل هذا النظام فوق الإقليمي، فسيتم إدخال الولايات المتحدة ليس كقوة عظمى، بل كعنصر فاعل على قدم المساواة مع باقي الأطراف، ما سيقود حتماً إلى تحول في نموذج العلاقات الدولية إلى حد كبير. لذلك، فإن القضية الليبية أهم بكثير من القضية السورية من حيث الابتعاد عن القطبية.
منذ فترة ليست قريبة، يحتل شرق المتوسط مركز الحسابات الجيوسياسية، فالمنطقة تُعدّ إحدى بؤر التنافس الإقليمي، من خلال الإطلالة على الشرق الأوسط الملتهب، إضافةً إلى موارد الطاقة المدفونة في أعماق مياهها، وموقعها على طرق عبور خطوط الغاز المرتقبة نحو أوروبا.
وباتت ليبيا اليوم، فجأة، في واجهة الأحداث والنقطة الساخنة سياسياً وإعلامياً وعسكرياً، بعد توقيع حكومة الوفاق في طرابلس اتفاقية تحديد مناطق الصلاحية في شرق المتوسط مع تركيا، فهي تُعتبر أحد الأجزاء المهمة المشتعلة في المنطقة، حيث تدور واحدة من أطول الحروب ليس بين الليبيين فحسب، بل يقاتل معهم أطراف إقليميون ودوليون، ويبدو أن الروس لن يكونوا آخر الملتحقين.
التطور المتسارع للأحداث على الساحة الليبية، يخفي بين ثناياه مستجدات معقدة أخرى، إذ تدعم موسكو منذ مدة ليست قريبة خليفة حفتر من خلال تقديم معدات عسكرية بوفرة له. وأُسقطت الشهر الماضي طائرة بلا طيار تابعة للولايات المتحدة قرب طرابلس، وبحسب بيان صادر عن القوات الأميركية في أفريقيا، فإن منظومة دفاع روسية أسقطتها.
وطغت المناكفات السياسية والأطماع الاقتصادية على حقائق كثيرة في صراع شرق البحر المتوسط، ويزيدها اشتعالاً الحديث عن كميات هائلة من الغاز في قاع المياه، فالقضية أكثر تعقيداً من تحالف تركي – ليبي بمواجهة مصر واليونان وقبرص اليونانية ومن خلفهم إسرائيل.
لا خلاف مصري – تركي مباشر بشأن ترسيم الحدود البحرية الثنائية على الإطلاق، بينما هناك خلاف ليبي – يوناني بشأن تراخيص الاستكشاف البحرية الصادرة عن أثينا للمياه جنوب جزيرة كريت، الواقعة بين تركيا وليبيا. وتُعدّ مشكلة أنقرة الأساسية، رغبة قبرص اليونانية في الاستفادة من الثروات الطبيعية لقبرص التركية.