هناك شيء طالما أردّده: لا تتركوا عملكم إلى التاريخ، أو إلى وجدان التاريخ وعدالته وما شابه. بل بالتأكيد حاولوا تأسيس عدالة اليوم. حاولوا اليوم أن تكشفوا عن الحقائق. ولو كانت لديكم توثيقاتكم فأبرزوها على العلن وبكل وضوح، بيّنوها، وناضلوا من أجلها، واخلقوا تأثيرًا جمهوريًّا حولها. ليس هذا فحسب، بل عليكم متابعة أي قضية أو مطلب تملكون. وإن لم تفعلوا، فليس هناك عين تاريخ تكشف كل شيء في المستقبل، ولن يكون لهذا التاريخ وجدان أو معلومة أخرى تنصفكم.
وكمثال واقعي ملاحظ، يحدث شيء ما في الصباح، لنجد 50 تفسير مختلف يتحدث عنه في المساء. إذن، أيّ ضمنا ذاك يمكن أن يعرض الحقائق مستقبلًا كما وقعت بالفعل؟ هذا مستحيل. إذا كانت المعلومة البشرية اليوم مجرد ظن، فإن المعلومة التاريخية غدًا لا يمكن لها بأي حال أن تزايد على ذلك، أو تكون قطعية أو مطلقة.
إن أي حادثة تقع اليوم، مع كل الشاهدين عليها، ببياضها وسوادها وبيانها ووضوحها، تتضمن نقلًا وسردًا للآخر، وهذا السرد بالتحديد ينبغي أن يكون بدون فجوة أو فراغ ما، وإلا فمن الممكن أن يتم تحويل دورك في هذه الحادثة إلى دور مختلف للغاية دون أن تدري. كأن تصبح ظالمًا وأنت المحق، ومعتديًا وأنت الضحية.
لا سيما وأن أمامك أشبه ما يكون بمنظمة متخصصة بتشويه الحقائق واللعب عليها.
وكأبسط مثال، لقد عشنا جميعًا محاولة الانقلاب الفاشلة 15 تموز/يوليو 2016. ولقد كان ذلك اليوم استثنائيًّا في تاريخ تركيا من حيث تميّز كل صف وفريق بوضوح تام، حيث تكشف فيه الجميع، إما إلى جانب الحق أو إلى جانب الباطل دون مواربة. تجلّى هذا الوضوح في الانقلابيين الذين تشبثوا بهذا الخزي والعار، مقابل الحق الذي تمسك به كلّ من دافع عن وطنه في ذلك اليوم. لقد كان تنقية بكل ما تحويه الكلمة من معنى، لدرجة أن لا أحد تمكن من صرف كلمة واحدة لفترة طويلة، ضد الحقائق التي أبرزتها محاولة انقلاب 15 تموز الفاشلة، ولم يعترض أي أحد على ذلك النصر الذي تحقق ذلك اليوم، ولا على صاحب هذا النصر.
إلا أن الحال بعد فترة من الزمن قد شهد بدء كتابة قصص مختلفة عن ذلك، من قبل مجرمي 15 تموز، وظلوا يكررون تلك القصص كوساوس شياطين فوق رؤوس الناس، حتى بدأ البعض فعلًا بالتأثر بها. المفارقة هنا أن الذين وقفوا إلى جانب الحق يوم 15 تموز، لم يسعوا جاهدين للتعريف بقضيتهم، لكن بالمقابل عمل مجرمو 15 تموز على صياغة قصص مختلفة وسعوا بشكل حثيث لا يصدّق من أجل ترويجها.
ربما محاولات إعادة صياغة التاريخ لم تلقَ تأثيرها في الداخل التركي أمام الذين عايشوا الحقيقة الأصلية وشاهدوها بأم أعينهم، إلا أنها في الخارج يتم تناقلها على شكل حكاية تتحدث عن 15 تموز على أنها مكيدة من صنع أردوغان. وبالطبع يبدو أنهم لا يواجهون صعوبات في ابتلاع مثل هذه الحكايات في الخارج، واختلاق أكاذيب أخرى من هذا النوع، ومن ثمّ بيعها للآخرين. فلا أحد أصلًا يحمّل همًّا اسمه معرفة الحقيقة. الكل يجري وراء كذبة.
بعد ادعاءات إلكر باشبوغ (رئيس الأركان التركي السابق) تتعلق بمنظمة غولن الإرهابية، ها نحن نتابع من حيث توقف، ولكن مع مزاعم بالأمس لكليجدار أوغلو (زعيم الشعب الجمهوري المعارض)، في صورة تبدو كنوع من تسخين الجو أو ركوب موجة اللغط. فهم كما يؤمنون بشدة بأنفسهم على أنهم طرف فاعل بطريقة ما في ذلك التاريخ، فإن ما يقومون بتكراره مرة تلو الأخرى، ربما يعثر على قيمة من الحقيقة في أسواقهم التي يروجون فيها. من الواضح أنهم يعلمون بأن أقوالهم تلقى تأثرًا. وهم لا يلقون بالًا بأن ما يكررونه على الدوام، يضر بالحقيقة ويثير غضب الأناس الصادقين، إنهم يهدفون إلى سحق الحقيقة عبر اللغة، بعد أن عجزوا أمامها في الميدان.
في نهاية المطف، لقد عشنا جميعًا ذلك التاريخ، وعلينا أن نتذكره.
إن منظمة غولن الإرهابية ليست كيانًا ظهر مع ظهور حزب العدالة والتنمية. بل هي منظمة ماسونية يعود تاريخها إلى ستينيات القرن الماضي، وكانت ذات تأثير في الحكومات التركية المتعاقبة على مدار 50 عامًا.
كانت منظمة غولن تمتلك بنية تتحكم بجميع الحكومات، ولقد عرفت بشكل جيد كيف تستفيد من جميع الحكومات التي سبقت العدالة والتنمية. وذلكل أن منظمة غولن ليست مجرد منظمة لوحدها، بل هناك بنية عليا تقوم بحمايتها واستخدامها كملقط في إدارة البلد والتحكم به.
جميع الحكومات السابقة قامت بخدمة منظمة غولن. لقد كان مصطلح “الخدمة” الذي أطلقته منظمة غولن على نفسها، بمثابة “شيفرة” كلمة مرور في الأصل؛ تعني أن الجميع سيخدم هذه الحركة. منذ الستينات قامت جميع الحكومات بخدمتها. ربما يمكن استثناء أربكان، لكن حتى من أربكان لم يتراجعوا عن أخذ ما يريدون أخذه.
في الحقيقة إن هذا الكلام ليس بالهزل؛ لقد تمكن منظمة غولن أن تكون الدولة بعينها، ولقد أغرقت حزبًا بعد أن تسربت فيه. إلا أن الحكومة الوحيدة التي قامت بتشخيص خطر منظمة غولن كي تكافح ضدها، هي حكومة العدالة والتنمية وأردوغان. كان هذا الكفاح شجاعًا للغاية، ويتطلب استقلالية مطلقة، ولم ينجح في تحقيق تلك الشجاعة والاستقلالية سوى حزب العدالة والتنمية.
اليوم يريد باشبوغ رئيس الأركان السابق أن يصيغ تاريخًا جديدًا حول قضية مكافحة منظمة غولن. لكن من أجل أن يفتح عينيه ويفيق، يكفي أن يعلم بأن جميع قيادات الصف الأول للانقلابيين يوم 15 تموز، جميعهم قد تسربوا للمؤسسة العسكرية قبل العدالة والتنمية بكثير، حتى ما قبل حقبة 12 مارس و12 أيلول.
إن مشكلة كليجدار أوغلو في الحقيقة لا تكمن في رؤية الحقيقية من عدمها.
الحكاية التي يعرضها علينا حول منظمة غولن، لا تكفي أبدًا لإخفاء صلة الوصل ما بينه وبين المنظمة على الإطلاق. تعالوا الآن للمرحلة التي سبقت كشف الوجه الحقيقي لمنظمة غولن عل يد العدالة والتنمية، وإلى المرحلة التي نجح فيها العدالة والتنمية من إزالة القناع عن وجه المنظمة، حنيها تتشكل أمامنا حقيقة تتجلى في التحالفات التي بدأت مع منظمة غولن ضد العدالة والتنمية، وهذه الحقيقة لا يمكن طمسها أو محاولة مسحها من التاريخ.
ويبدو أن هذا التحالف لا يبدو قائمًا حتى اليوم، كما يبدو أنهم باتوا يعلقون آمالهم على صياغة تاريخ مصطنع من خلال حكاياتهم الكاذبة.