لا نعلم من يُصدر الشائعات حول انقلاب في تركيا، ومن يأخذ ذلك على محمل الجد، إلا أن الأمر قد تحول إلى قضية بعد كثرة الحديث عنه. وعندما سئل الرئيس أردوغان عن ذلك، اعتبره أمرًا سخيفًا، لكنه قال بأن أصحاب هذه الشائعات عليهم أن لا ينسوا محاولة الانقلاب الفاشلة 15 تموز/يوليو.
نعم، ليلة 15 تموز كانت لحظة انكسار حقيقية في تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا. وما أظهره الشعب التركي من حسّ عالٍ في تلك الليلة ضد مفهوم الانقلاب العسكري، كان بمثابة صفعة لا تُنسى في ذاكرة الحالمين بوقوع انقلاب في المستقبل. قُضي الأمر في تلك الليلة، من حيث أنه لم يعد هناك مجال، حاضرًا أو مستقبلًا، لتبرير وضع يسمح بالانقلاب، أو محاولة شرعنته وإضفاء الأحقية عليه.
في الوقت ذاته، لقد حققت تلك الليلة مكسبًا يكمن في إعادة موضعة العلاقة بين المدنيين والعسكر في تركيا، على أساس سليم معاكس لما كان سائدًا في الماضي. لقد ساهمت في إيصال مستوى المواطنة في تركيا، إلى نقطة اتحاد ضمن علاقة سليمة، ما بين الشعب والعسكر. حيث أظهرت الإرادة الشعبية المنتخبة موقفًا غير مسبوق أبهر العالم أجمع، فقد صانت الديمقراطيةَ والدولةَ من الانقلابيين، عبر توحيد صف الدولة والشعب والديمقراطية، في مشهد ملحمي لا يُنسى.
بدلًا من أن يكون المشهد عبارة عن دولة أو جيش يمتلك شعبًا، فقد أظهر الشعب أنه جسد متكامل ناضج بجميع أعضائه، وهو الذي يمتلك الجيش والدولة معًا.
اليوم حينما لا يقوم الجيش بانقلاب أو أنه غير قادر على فعل ذلك، لا يعني أنه جيش ضعيف، بل على العكس؛ إن الجيش التركي اليوم أقوى حالًا من أي وقت مضى على مرّ تاريخ الجمهورية التركية، لقد بات واحدًا من الجيوش الرائدة القليلة حول العالم من حيث قدرته وقوته.
لقد باتت القوات التركية اليوم الملاذ الآمن للصديق؛ والرعبَ الخانق للعدو، وذلك من خلال قدراتها التي جسدتها سواء من خلال مكافحة الإرهاب في الداخل، أو من خلال عملياتها خارج الحدود. وهذا نابع من مبدأ الاهتمام بالوظيفة الأساسية المكلفة بها، وابتعادها عن الأعمال البعيدة عن مهمتها الأصلية.
إن العسكر الذين يقحمون أنفسهم بالسياسة عبر الذهنية العسكرية، فإنهم يقضون على قابليتهم لأن يكونوا جنودًا محاربين ضد العدو. إن قسمًا كبيرًا من جيوش الشرق الأوسط، تم صنعها ليس لأجل محاربة العدو وحماية البلد، بل لمحاربة شعوبهم، ولذلك السبب تجد أن قدرتهم على محاربة العدو الخارجي محدودة إلى حد كبير.
وذلك لأن غايتهم بعيدة كل البعد عن أن تكون حماية البلد من العدو الخارجي، بل ليس لديهم غاية أو هدف سوى حماية النظام الذي هو منهم، أو الذي استولوا عليه كي يضمن لهم منافعهم الشخصية، وضدّ من؟ ضد شعبهم ذاته.
لذلك تراهم يبحثون عن دعم خارجي من أجل مواصلة فرض أنفسهم على الشعب، فقد باتوا خبراء ومتخصصين في قمع الشعوب والحرب ضدهم. ولأنهم ليسوا في سلام مع شعوبهم يعتبرون أن التهديد الحقيقي يكمن في الشعب ذاته وليس من الخارج، ولذلك ينشئون الأجهزة الاستخبارية والفروع الأمنية دون ملل.
وللأسف تبدو هذه الأنظمة هي المفضّلة بالنسبة لحلفائها الغربيين، الذين لا يمتنعون عن نسب أنفسهم للديمقراطية دون خجل. لا يفضّل الغرب أي نظام ديمقراطي في العالم الإسلامي، بل يريد دائمًا التعامل مع الأنظمة الديكتاتورية لأنها في الحقيقة توفر للغرب ما يشتهي ويريد دون أن يتعب نفسه.
لقد كان الانقلابيون في تركيا يتعاملون معه بطريقة أسهل، وذلك لأنهم قد وصلوا إلى السلطة رغمًا عن الشعب، ولذلك كانوا يحتاجون على الدوام إلى مشرّع وداعم سياسي من الخارج. لو أن محاولة انقلاب 15 تموز وصلت إلى هدفها -لا سمح الله-، فهل كان الشعب التركي سيقبل بها؟.
إن القدرة القتالية لدى الانقلابيين الذين تسربوا للقوات المسلحة التركية كانت منخفضة، لأن الخيانة التي قد لبسوا قميصها، تُبعدهم بالتالي عن مهمتهم الأصلية في الجيش وتجعلهم فاشلين. ولذلك السبب لم ينجحوا على صعيد مكافحة الإرهاب عبر عشرات السنين، سوى في قصف حجارة الجبال دون نتيجة، ولم يقدّموا لتركيا أي فائدة على صعيد ردع المؤامرات التي تحاك من حولها، أو يجعلها لاعبة دور فيما يجري.
إن ما نجحت به تركيا من القضاء على محاولة انقلاب عسكرية في 15 تموز/يوليو، مكّنها بعد شهر بالضبط من القيام بعملية عسكرية خارج الحدود، ألا وهي “درع الفرات”، ومن بعدها واصلت طريقها في غصن الزيتون ونبع السلام. وعبر قوة رادعة في كل من قطر وليبيا، تمكنت من تغيير كل الموازين على الأرض. لقد استطاعت القضاء على الإرهاب داخل البلاد، دون أن يتسبب ذلك بخسارة مدني أو انتهاك حق من حقوقه، في مشهد أدهش العالم كله.
لقد تحقق كل ذلك وباتت ممكنًا، من خلال تخليص تركيا إلى حد كبير من العقلية العسكرية والانقلابية، وتركيز العسكر على واجبهم الأصلي ووظيفتهم الأساسية في البلد. وفي الوقت ذاته، انعكس ذلك على زيادة قوة وقدرة الجيش التركي من جانب، وعلى توحيد صفه مع صف الشعب من جانب آخر.
إن هذا التقدّم العظيم الذي حققته تركيا على يد القوات المسلحة التركية خلال وقت قصير للغاية، يجعل من تلك الشائعات حول انقلاب عسكري أمرًا بعيدًا كلّ البعد عن الواقع. إلا أن عدم واقعيته بالتحديد ربما تهدف إلى شيء ما. ربما يحاول البعض من خلال شائعات الانقلاب تسريب اللاواقعية إلى عقول الشعب، والهدف من ذلك هو طموحٌ وأملٌ في إعادة تفكير الجيش بتلك العادة السيئة التي بدأ ينساها.
لو تلاحظون، فإن الأمر قد وصل إلى أبواب مركز الأبحاث الفكري الشهير في الولايات المتحدة “مؤسسة راند”. وحين الحديث عن هذا الأمر البعيد عن الواقع في منتديات فكرية من هذا النوع، فإن الموضوع سيتم تناوله بجدية أكثر في تركيا. ومع مرور الوقت ربما يتحول الأمر من سيء إلى أسوأ.
أي نوع من الحسابات هذا؟ يمكن أن يكون نوعًا من حسابات التجار المفلسين الذين لم يعودوا يملكون شيئًا. يمكن أن يكون حلمًا عبثيًّا كانوا يريدونه أن يتحقق، بعد أن عجزوا وفقدوا الأمل من واقع تركيا.
.