بات مؤكداً أننا إزاء أكبر توتر بين تركيا وروسيا في سوريا منذ إسقاط المقاتلة الروسية “سوخوي” في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 ، فموسكو لا تبدو مكترثة جداً بالتحفظات التركية على انتهاك النظام لاتفاق “سوتشي”، الذي لا يعدو كونه رسالة روسية لها في المقام الأول، كما أن تركيا لا تتورع عن إرسال بعض الرسائل السياسية والميدانية للطرف الآخر.
أهم الرسائل التركية كانت التهديد بعملية عسكرية ضد النظام إن لم يتراجع إلى حدود اتفاق “سوتشي” والتعزيزات الكبيرة والمستمرة إلى المنطقة، بل إن “أردوغان” قال في أحد تصريحاته الأخيرة: إن بلاده “قد لا تنتظر حتى نهاية الشهر الجاري” كما حدد سابقاً، يوم الأربعاء الفائت، قال أردوغان: إن بلاده مصممة على إرساء وقف إطلاق النار في إدلب وإنها لن تترك الأخيرة “للنظام ومن يشجعونه” وإن العملية العسكرية باتت “مسألة وقت”.
الرد الروسي على تصريحات أردوغان لم يتأخر، حاملاً نبرة من التحذير وربما التهديد المبطن من أن العملية العسكرية التركية إنْ بدأت فستكون “أسوأ سيناريو”، ليرد أردوغان آمِلاً أو ناصحاً بألا تكون موسكو “جزءاً من هذا السيناريو”.
هذا التراشق “التركي – الروسي” هو التعبير الأوضح عن فشل التفاوض الثنائي بينهما في جولتيه في أنقرة وموسكو، حيث قال الناطق باسم الرئاسة التركية “إبراهيم كالين”: إن بلاده رفضت الخرائط والمقترحات التي قدمها الجانب الروسي، وهي خرائط تضمنت -وفق ما سُرّب في الإعلام- بقاء القوات التركية في شريط حدودي ضيق وسيطرة النظام على كل ما تبقى من المنطقة بما فيها مركز إدلب، في المقابل، ارتفعت وتيرة التصريحات الروسية التي تحمِّل أنقرة مسؤولية عدم تطبيق سوتشي وتحديداً الفصل التامّ بين هيئة تحرير الشام والمعارضة المعتدلة، ما يعطي من وجهة نظرها للنظام الحق في “مكافحة الإرهاب” ، فهل باتت العملية التركية في إدلب ضد النظام مسألة وقت فعلاً؟
نظرياً، ما زال هناك إمكانية ويبقى هناك دائماً احتمال للتوافق “التركي – الروسي”، لما بينهما من مصالح وتفاهمات وحرص كل منهما على تجنب المواجهة المباشرة مع الآخر ولما لأي تحرك عسكري من ارتدادات محتملة فضلاً عن تعقيدات الميدان، في الإطار العامّ يتفق الجانبان على ضرورة التوصل لاتفاق ما مع اختلافهما على بنوده وسقفه وآلية تنفيذه، لكنها تفاصيل يمكن دائماً التوافق حولها إذا ما توفرت الإرادة، كما أن ارتفاع التوتر في الميدان قد يفتح أبواب السياسة الموصدة.
لكن عملياً، بات من الصعب جداً على الجانبين الاتفاق قبل انتهاء المهلة التركية، لا سيما أن أي قمة ثنائية أو ثلاثية -بمشاركة روحاني- قد تجمع أردوغان وبوتين ستحتاج ترتيباً ووقتاً، والموعد الأولي المطروح لها هو شهر آذار/ مارس المقبل.
ومع رفع تركيا سقفها بهذه الحدة، وتأكيدها أكثر من مرة على إصرارها على العملية العسكرية ما لم يتراجع النظام، تكون قد وضعت لنفسها حدّاً يصعب عليها التراجع عنه، الأمر الذي يعني أن تحرُّكاً عسكرياً تركياً بات قاب قوسين أو أدنى، ولذلك فالسؤال المطروح اليوم وَفْق المعطيات ليس عن احتمال التحرك، وإنما عن سقفه وحدوده وأهدافه.
الأرجح أن تكون العملية التركية محدودة، على الأقل في بداياتها، تجنباً لأي صدام مباشر مع روسيا، وكذلك لاختبار موقفها الحقيقي، وحرصاً على أن يدفعها إطلاق العملية لمزيد من الاقتراب من الموقف التركي بخصوص مستقبل المنطقة، بهذا المعنى، ستكون العملية التركية نتاجاً لتجمُّد المسار السياسي مع موسكو وهدفها بالتالي تحريكه قبل أي هدف آخر.
في هذا الإطار، ستكون معايير مثل فك الحصار عن نقاط المراقبة التركية وإعادة النظام لما بعد الطرق الدولية مرضية بالنسبة لأنقرة، كما أنها ليست بالضرورة خطوطاً حمراء بالنسبة لموسكو، التي يمكنها أن تبني على ذلك تفاهُمات تبقي تلك المناطق تحت إدارة روسية أو “روسية – تركية” ، فضلاً عن تأمين شريط حدودي أو منطقة آمنة قرب الحدود التركية، أو غيرها من البنود.
في الخلاصة، يبدو أن كل المعطيات الميدانية والسياسية تزيد من فرص العملية التركية التي يفترض أن تبدأ محدودة وجزئية، لكن تطورات الميدان يمكن أن تدحرجها لتتوسع أكثر، وهنا يبدو أن القراءة الروسية للعملية وما سينتج عنها ستكون محددة جداً بخصوص السيناريوهات المحتملة، فمن المعلوم أن روسيا لا تريد خسارة التعاون والتفاهمات مع تركيا وأنها حذرة من الدعم الأمريكي المعلن لتركيا، لكنها كذلك ما زالت تصر على تثبيت الوضع القائم في إدلب رغم تحفظات أنقرة.
إذن، يبدو أن تركيا مدفوعة للعملية اضطراراً باعتبار أن الخيارات الأخرى -بما فيها الانتظار والترقب- فيها خسارة واضحة لها، بينما تملك روسيا إمكانية حصرها ميدانياً وتثميرها سياسياً أو دحرجتها لتنفتح على احتمالات عدة من بينها الصدام المباشر الذي لا يريده الأتراك والروس، لا سيما وأن هناك عدة عوامل وفواعل في الميدان يصعب السيطرة عليها ويمكن أن تفتعل أو تتسبب في مواجهة “تركية – روسية” بدرجة أو بأخرى.