“عندما اختفى العلماء مع السلطة الدينية خلال عصر الحداثة، وعندما ابتعد الناس عن المعلومات الأساسية للدين، برزت هناك حاجة طارئة كانت أشبه ما تكون بالاكتفاء الذاتي. وعند إضافة الفرد إلى العلاقة القائمة بين الدين والفرد، بمعنى آخر عند ظهور المفهوم القائل: يمكنني تعلم الدين بنفسي؛ تضاعفت الحاجة إلى مرجع. إلى جانب ذلك، ساهمت دعوات التيارات الإسلامية الحديثة التي نادت بالعودة إلى القرآن، بالدعوات التي نادت بقراءة المرجع. وبالتأكيد يعتبر وجود ووفرة مراجع صحيحة ومستقيمة أمرًا إيجابيًّا بالنسبة للمجتمع الفكري، وفي الوقت ذاته، يعتبر خطأ أن يظن أولئك الذين ليس لهم دراية بالعلوم الدينية، أن بإمكانهم قراءة المرجع. من الممكن تقديم تفسيرات اجتماعية مختلفة عن سبب زيادة المراجع، لكن يصعب الجزم بأن هذا الأمر نافع بحد ذاته”.
منذ فترة كتبت هنا بعض المقالات حول ترجمة حسين كاظم قدري لكتاب النور المبين، ولقد أوردت بعض الاعتراضات التي جاءتني ووجدتها مهمة، حول ما دافعت عنه من أفكار في تلك المقالات. في الحقيقة تحتوي تلك الاعتراضات على أطروحات يمكن أن تكون مفيدة من حيث إمكانية إعادة تقييم للعديد من القضايا. لذلك كان من الضروري أن لا يتم إهمال الحديث عنها، حتى ولو تأخرتُ قليلًا عن ذلك لكنني ها أنا أعود للحديث حوله مرة أخرى.
بادئ ذي بدء، نحن بحاجة إلى استفسارات جدية وواقعية حول كيفية تصوّر الماضي. على سبيل المثال؛ إلى أي مدى كان تأثير العلماء في الماضي على الجمهور؟ هل نحن حقيقة على دراية واسعة بذلك؟.
بغض النظر عن بعض تصوراتنا الجاهزة عن الماضي، عند الحديث عن بنية مجتمعية في الماضي كان 85 بالمئة منها يقطنون في القرى، علينا أن نسأل؛ إلى أي مدى كان انتشار التعليم والعلوم الدينية في تلك القرى، وهل كان هناك ما يكفي من العلماء لتلبية احتياجات التعليم والتوجيه الديني للجمهور في كل تلك المناطق؟ وبالنسبة للعلماء الموجودين، أي نوع من الحوار والفهم الديني كانوا يعتمدونهما في مخاطبة الجماهير؟.
إنني أعتقد أن تصورتنا حول هذا الموضوع مثالية إلى أبعد الحدود. لم يكن الكثير بمقدور العلماء كي يجابهوا به طبيعة البدعة والخرافة التي كانت سائدة، في مجتمع كانت نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة فيه متدنية بشكل كبير. أضف إلى ذلك أن الواقع آنذاك كان يشي بأن المجالات التي كانت بيد العلماء، لم يكن بوسعهم أن يحافظوا عليها دون وجود السلطة السياسية، واستنباط هذا الشيء لا يتطلب منا العيش في تلك الحقبة، بل يكفي مراجعة المقياس الذي طالما استخدمه ابن خلدون من اجل المعرفة التاريخية: الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء.
يمكننا على سبيل المثال إلقاء نظرة على الأحداث المتطورة بعد الانقطاع التاريخي الشهير بين أمراء التركمان، في عهد السلطان محمد الفاتح. كيف تمكن هؤلاء الأمراء بعد تقرّبهم من إيران لأجل الانتقام فحسب، في نشر خطاب ديني يعتمد على البدع والخرافة، في أرض الأناضول وخلال فترة قصيرة من الزمن، معتمدين على قوة صفوية وراءهم؟.
لمذا لم يتكمن العلماء آنذاك الذين كانوا يتمتعون بسلطة لا جدل فيها في المجتمع العثماني، من الوقوف في وجه ذلك الانتشار لذلك الخطاب؟ بعد تلك الحادثة هل كان هناك اختلاف جوهري أصيل في منطقة الأناضول بين السنّة وقبائل “قيزلباش” العلوية، لا سيما العلوية المتدينيين القاطنين في القرى؟ بل حتى اليوم عندما تقارن بين العقائد الشعبية لسكان قرى وسط الأناضول، ممّن لم يتلقوا التعليم الديني، لن تعثر على فرق جوهري فيما بينها. لا فرق على الإطلاق إلا في القشور التي بقيت في الماضي من حيث الانتساب إلى الشاه أو السلطان.
بالطبع ليس هدفنا هو نقد أو انتقاد القوة أو القوة التوجيهية التي كان يتمتع بها العلماء في الدولة العثمانية، حيث لا فائدة ولا جدوى من ذلك. “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون”. نعم من الضروري أن نفهم ونقدّر التغييرات التي عشناها، أن نفهم أين هو الماضي وأين الذي نعيشه وما هو، لكن لا يعني ذلك أن نشتم الأسلاف في الماضي لأنهم لم يتمكنوا من استخدام بعض الإمكانيات المتاحة اليوم، هذا ليس من الإنصاف في شيء.
لذلك، علينا رؤية هذه الحقيقة بوضوح: لقد كانت قدرة علماء الماضي محدودة من حيث نشر العلوم القرآنية عبر الاتصال مع الجماهير، في مجتمع 85 بالمئة من سكانه منشغلون في الزراعة، ولا يعرف الطباعة، ولا يوجد فيه نظام رسمي للتعليم أو بالأحرى لم يكن بمقدورهم ذلك النظام.
كم قرية كانت تمتلك مصحفًا للقراءة؟ كان ذلك يمثل مشكلة بنيوية للحياة الاجتماعية، أو بالأحرى لم تكن مشكة بل وضعًا أو واقعًا، وبالمناسبة لم يكن العثمانيون وحدهم مخصوصين في هذا الوضع، بل المجتمعات الأخرى المعاصرة كانت تعاني من الأمر ذاته، بل ربما كان المجتمع العثماني اكثر تطورًا منها.
في جانب تعليم القرآن على الأقل، كانت هناك نسبة عالية من القراءة، على الرغم من عدم معرفتهم بالمعنى أو بالكتابة، ولقد كانت هذه النسبة ملفتة للنظر وخاصة من جانب النساء اللواتي كنّ يقران. وحين مطالة نسبة النساء القارئات واللواتي كنّ يجدن كتابة النص العثماني، نجد أنهة يتفوقن في معدل القراءة والكتابة على نظيرتهن في الغرب. الأمر ذاته ينطبق أيضًا على الذكور المجيدين للقراءة والكتابة.
ولذلك، فإن الفجوة بين التطور القائم في معدل القراءة والكتابة مع انطلاق الحداثة، وبين الحال في الماضي من حيث قراءة القرآن بالعربية ومع المرجع، تكشف عن وتيرة متسارعة من التطور لا يمكن بأي حال مقارنتها مع الماضي.
بالنسبة للوضع العثماني تحديدًا، ربما من الصعب نعم تقبل فكرة الحنين للماضي، في عهد الجمهورية نظرًا لانهيار الروابط الذي نتج عن الوضع المعلوم ما بين السياسة والدين. إلا أنه في النهاية حقيقة، وبعد رؤية هذه الحقيقة يمكننا بالطبع مواصلة الحديث عن توابع ذلك الوضع.
سواء الفردية أوالمجتمعية وكذلك الوضع البنيوي-الاجتماعي للعصر الذي نعيش فيه؛ الجميع على أساس فردي يتمتع بالقوة والحرية والقدرة على اتخاذ قرار فردي إزاء الفهم الديني. هل هناك وضع يدعو لعدم الراحة من هذا الشيء؟ أليس هذا بحد ذاته متوافقًا مع المنطلق القرآني الذي يخاطب الفرد بعينه، وأنه لا يتحمل المسؤولية أي أحد عن أحد؟.
.