إن السياسة التي تتخذها تركيا في سوريا بشكل عام وإدلب بشكل خاص، تعتبر لا مثيل لها فيما لو قارنّاها مع سياسات بقية الفاعلين في الساحة السورية. بينما يبدو الجميع منشغلًا بالنزاع حول تقاسم الحصص في سوريا بكل أساليب الوحشية، غير مكترث بما ينتج عن ذلك من أزمات إنسانية؛ تجد تركيا وحدها تكافح لوحدها في هذا الصدد وتُعطي الأولوية للبعد الإنساني في الملف السوري.
كما ذكرنا سابقًا، تركيا الآن تعتبر مسؤولة عما لا يقل عن 10 ملايين سوري، 4 منهم قد لجؤوا بالفعل إلى أراضيها، بينما هناك 6 ملايين في إدلب والمناطق التي دخلتها تركيا.
لا يمكن أن نعتبر دخول تركيا إلى إدلب احتلالًا، كيف وإدلب الآن هي عبارة عن منطقة تجمّع لاجئين فحسب. ما هي المصالح او المكاسب التي يمكن أن تجنيها تركيا من هناك مثلًا؟ لو لم تدخل تركيا إلى هناك، فإن نظام الأسد ومن يحميه سيقومون بممارسة إبادة جماعية وتطهير عرقي بحق الأهالي هناك خطوة خطوة. إلا أن المصلحة التركية الأولى في إدلب هي منع حصول هذه الإبادة الجماعية، لا شيء آخر.
هناك من يعتبر الموقف التركي مربحًا للغاية وفق معادلات العلاقات الدولية، والبعض يجد الموقف التركي عاطفيًّا أكثر منه عقلانيًّا أو منطقيًّا. بغض النظر عن هذا وذاك، إلا أن هناك واجبًا إنسانيًّا يطالبنا بعدم السكوت والاكتفاء بالتفرج على ما يحصل أمام أعيننا من إبادة جماعية. إن جميع الذين يظنون أنهم يتقاسمون أرباحًا او مكاسب مما يجري هناك، فإنهم لن ينجوا من اللعنات التي ستنفجر من هذه الإبادة الجماعية، سواء مرتكبي هذه الإبادة أو الداعمين لها او حتى الصامتين عنها.
بغض النظر عن تلك الأقاويل التي تتهم تركيا بأنها تقود سياسة غير عقلانية في سوريا وإدلب، هناك من يتخذ مواقف هي أشبه بالتي تصدر عن شبيحة الأسد أنفسهم، هؤلاء يعتبرون في الحقيقة نقطة سوداء في جبين السياسة الإنسانية لدى تركيا. إن الموقف الذي يقوم عليه كليجدار أوغلو من حيث الاعتراض الشديد على دخول تركيا إلى إدلب، والتصريحات الداعمة للأسد أو ربما الصرخات التي يطلقها كل حين لإنقاذ الأسد على مدار 9 سنوات بأكملها؛ يُظهر بشكل مباشر أن كليجدار أوغلو يقف تمامًا بجانب الأسد الذي هو مجرم حرب.
إن كليجدار أوغلو لم يكلف نفسه لإصدار حتى ولو تصريح واحد، يندد خلاله بالحملة الوحشية التي يقوم بها الأسد مؤخرًا، والتي تسببت بتهجير قرابة مليون ونصف نحو الحدود التركية. كليجدار أوغلو بدلًا من هذا، راح يتهم الفارين من ظلم الأسد وجرائمه وفيهم الطفل والرضيع، بأنهم إرهابيون، بل راح أيضًا يتهم تركيا التي تدعم هؤلاء الأبرياء من المهاجرين والمستضعفين، بأنها تدعم الإرهاب في سوريا، مما يشير إلى أن كليجدار أوغلو قد تحول إلى ناطق رسمي باسم الأسد.
هناك تصريحات أخرى في السياق ذاته، صدرت عن زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي في تركيا، اعلن فيها بشكل صريح دعمه لـ “هتلرات” الشرق الأوسط، فهل التغني باسم الديمقراطية بات سهلًا لهذه الدرجة من قبل احزاب المعارضة في تركيا؟ عندما أنظر لزعماء أحزاب معارضة في تركيا، وهي تدعم نظام الأسد المسؤول عن قتل وتهجير الملايين من شعبه، وممارسة كافة انواع التطهير العرقي والمذهبي والطائفي؛ أتساءل؛ أيّ تركيا تلك التي يحلم بها هؤلاء؟ لو استلموا الحكم في تركيا يومًا ما –لا قدر الله- هل سيقومون بتطبيق هذا النظام أيضًا؟ هذا الكلام ليس مزاحًا، ولا وهمًا، بل إنه بات امرًا يمثل تهديدًا حقيقيًّا لأمن تركيا، كما أنه خطر حقيقي على الديمقراطية في تركيا.
نائب برلماني استفزازي من حزب كليجدار أوغلو ذاته، أدلى بتصريحات مشينة بحق الرئيس التركي داخل قاعة البرلمان، ممّا أدى بدوره إلى حدوث فوضى ضربت القاعة البرلمانية. على الرغم من أنه أخذ جزاءه المستحق، إلا أنه ذلك يعتبر جزءًا من مخططه الخبيث، حيث كان يتعمد حدوث ذلك. يريد من خلال ذلك إرسال رسالة عبر الإعلام العالمي، مفادها أن حرية التعبير في تركيا منعدمة وكذلك التسامح. كان من الواضح أن أعداء تركيا سيتلقفون هذه الرسالة ويتاجرون بها، لا سيما وأن تركيا الآن تعتبر لاعبًا رئيسيًّا في المنطقة والعالم وستجل نجاحات كبيرة بهذا الصدد.
نعم كان من الواضح بروز مواقف عدائية ضد تركيا، على سبيل المثال؛ الإعلام العربي لم يتوقف طيلة أيام عن عرض تلك المشاهد، للبرهنة على انعدام الديمقراطية وحرية التعبير في تركيا. هذا وحده يظهر بوضوح حجم المأساة الكوميدية التي نعيش بصددها.
العجيب أن الإعلام الذي يعرض هذه المشاهد وينتقد حالة الديمقراطية وحرية التعبير في تركيا؛ هو الإعلام المصري، أي إعلام ذلك النظام الذي قتل نحو 3 آلاف خرجوا ضده، وقتل معارضيه في بيوتهم دون محاكمة، وقام باعتقال أي أحد ينتقد “الديكتاتور، بل اعتقل أيضًا كل من تراوده نفسه بالترشح أمام هذا الديكاتور، حتى غصت معتقلات بمئات الآلاف من المعتقلين السياسيين، فضلًا عمن اضطر لترك وطنه هربًا من هذا النظام.
هانك الإعلام السعودي أيضًا قام هو الآخر بعرض تلك المشاهد منتقدًا حالة الديمقراطية وحرية التعبير في تركيا، الإعلام السعودي يعني إعلام الدولة التي قامت باعتقال مئات العلماء والمفكرين؛ ليس لأجل تصريحاتهم بل لأجل مجرد سكوتهم وعدم دعمهم للنظام السعودي، إعلام الدولة التي تقوم بقتل الصحفيين داخل قنصلياتها وتنشرهم بالمنشار وتقطعهم، إنه إعلام الدولة التي لا يمكن لأحد ان ينتقد فيها وليّ العهد ولو بالإشارة.
أيضًا إعلام الإمارات، أي إعلام الدولة التي لا يوجد فتنة أو ضرر لللعالم الإسلامي إلا وتجد لها أصابع هناك، الدولة التي لا يوجد في قاموسها أبدًا مصلطح معارضة، حيث أي كل المعارضين إمام تحت القبر أو في المعتقل أو المنفى.
ها نعم، هناك أيضًا الإعلام السوري والإيراني، لكن أفضَل عدم الدخول أصلًا في الحديث عنهم.
لمثل هذه الوسائل الإعلامية يريد حزب الشعب الجمهوري إثبات أن الديمقراطية وحرية التعبير منعدمة في تركيا، إذا كانت وسائل إعلام تلك البلاد تريد أن تتحدث عن ذلك من الشعب الجمهوري، إذن من الواضح حجم الديكتاتورية التي تسكن قلب هذا الحزب، أن تسنح له الفرصة لكم هذا البلد، لا قدر الله.
من الطبيعي حدوث خلاف او عراك حتى في برلمان حيّ مثل البرلمان التركي. لكن أي بلد من تلك البلاد التي يُعجب بها كليجدار أوغلو، أن يحصل فيها هذا المشهد يا ترى؟.
على كليجدار أوغلو أن يفكر بذلك، وليس فقط إعلام تلك البلاد.
.
بواسطة / ياسين اكتاي